يحفل تاريخ البرتغال الأندلسي بمجموعة واسعة من أساطين العلم والأدب والسياسة يصعب حصرهم في إطروحة متواضعة مثل هذه. ولما لبعض هؤلاء من مكانة برت من برز في المناطق الأخرى من شبه جزيرة أيبريا أيام الاستيطان العربي، لا بد من مراجعة سريعة تنحصر بمشاهير أعلامهم. ومن هذا المنطلق يفتتح الحديث بالإشارة الى العلامة أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي والذي يعتبر من ألمع رجال الحكمة والمعرفة والفقه في زمانه. فقد ولد أبو الوليد في مدينة باجةبجنوبالبرتغال سنة 1012م، وتتلمذ على يد بعض علماء الأندلس قبل أن يتوجه الى المشرق العربي ليوسع آفاق اطلاعه ثم يعود الى الأندلس تصحبه شهرة واسعة ومكانة مرموقة، حتى أن بعض أهل عصره اعتبروه منافساً لابن حزم، وبخاصة بعد المناظرة المشهورة التي دارت بين الاثنين في مدينة ميوركة، والتي يقال انها انتهت لمصلحة أبي الوليد. ومن أهم ما تركه أبو الوليد شرح وافٍ لفقه مالك. كما عرف عنه بأنه كان يسعى دائماً لعقد صلح بين ملوك الطوائف في محاولة لجمع الشمل، الى أن توفى في ألميرا بعد أن قضى أيامه الأخيرة بصحبة المقتدر أمير سرغسطة. والحديث عن الباجي يجرنا الى الحديث عن المعتمد ابن عباد الذي كان هو الآخر من مواليد باجة. فقد ولد المعتمد في باجة سنة 1040م. وعند بلوغه سن الرشد عيّنه أبوه المعتضد أمير بني عباد والياً لمقاطعة شلب في جنوب غرب البرتغال حيث عاش محاطاً بالأدباء. وقد كان المعتمد شاعراً متمكناً له قصائد شعرية كثيرة وظل مستمراً بالقريض، يرتجل وينوع الأبيات الى أواخر أيامه حتى بعد نفيه الى آغمات. وبهذا الشأن ترد على الخاطر الأبيات التالية يرثي فيها نفسه في قصيدة نظمها قبيل مماته: غريب بأرض المغربين أسير سيبكي عليه منبر وسرير وتندبه البيض الصوارم والقنا وينهل دمع بينهن غزير إذا قيل بآغمات قد مات جوده فما يرتجى بعد للجود نشور مضى زمن والملك دونه متى صلح للصالحين دهور مدحه شعراء عصره وآخرون بعدهم اعجاباً بشخصيته. ومن الأدباء الذين زاروه في منفاه أبو بكر الداني الذي لم يخف اعجابه حتى بسلالته بني عباد، إذ قال فيهم: تبكي السماء بدمع رائح غادي على البهاليل من أبناء عباد على الجبال التي هدت قواعدها وكانت الأرض منهم ذات أوتاد ان يخلعوا، فبني العباس قد خلعوا ودخلت قبل حمص أرض بغداد وعندما زار لسان الدين بن الخطيب قبر المعتمد سنة 1370م، أي بعد قرنين ونصف القرن من مماته، كتب على لوح نصب الضريح أبياتاً من الشعر نظمها خصيصاً له، منها: قد زرت قبرك عن طوع بآغمات رأيت ذلك من أولى الواجبات كرمت حياً وميتاً واشتهرت علاً فأنت سلطان أحياء وأموات واسم المعتمد طالما لازمه اسم أبي بكر محمد بن عمار الذي كان وزيراً ونديماً له يشاركه صنع نظم القوافي، وكان أبو بكر فصيح اللسان قال من الشعر ما يملأ كتاباً. امتدح المعتمد كثيراً قبل أن تتطور العلاقة بينهما، حيث كان يخاطبه بمثل هذه الأبيات: هنيئاً فأنت مليك الملوك صرح الجد للمازح وما أخرتني عنك النجوم يا غرة القمر اللائح ومن معاصري المعتمد الشاعر المعروف محمد بن عبدون صاحب الملحمة الشعرية التي عرفت ب"القصيدة"، نظراً لمكانتها في الشعر الأندلسي وكذلك لشخصيته. وابن عبدون من مواليد يبره، عاش في ظل بني الأفطس في بطليموس. نظم ابن عبدون أبيات تلك القصيدة التي تعتبر من أجمل الرائيات في الشعر الاندلسي في رثاء بني الأفطس وأميرهم المتوكل الذي قتل غدراً على يد المرابطين وكان مطلعها: الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور أنهاك أنهاك لا ألوك موعظة عن نومة بين نياب الليث والظفر ومنها: بني المظفر والأيام لا نزلت مراحل والورى منها على سفر سحقاً ليومكم يوماً ولا حملت بمثله ليلة في غابر العمر وقبل هؤلاء أو بالأحرى في القرن العاشر الميلادي، ولد في قرية القبذاق بنواحي لشبونه الشاعر أبو زيد عبدالرحمن بن مقانا القبذقي الإشبوني والذي كرمه البرتغاليون ببناء نصب "تذكاري" حول قبره القائم الى اليوم عند أحد مداخل تلك القرية. ولإبن مقانا قصائد شعرية كثيرة، أكثرها شيوعاً تلك التي مدح بها أحد الحموديين، ويقول المقري صاحب كتاب نفح الطيب ان تلك القصيدة ألقاها ابن مقانا بمدينة ملقه في حضرة الخليفة الحمودي يحيى بن إدريس الفاطمي الذي عرف عنه بأنه كان يستقبل زائريه جالساً خلف ستارة أو حجاب يفصله عنهم، مطلعها: البرق لائح من أندين ذرفت عيناك بالدمع المعين ولصوت الرعد زجر وحنين ولقلبي زفرات وأنين لعبت أسيافه عارية كمخاريق بأيدي اللاعبين وأنادي في الدجى عاذلتي ويك، لا أسمع قول العاذلين عيرتني بسقام وضنى إن هذين لزين العاشقين نثر المسك على مفرقها درراً عامت فعادت كالبرين مع فتيان كرام نجب يتهادون رياحين المجون ويسقون إذا ما شربوا بأباريق وكأس من معين شربوا الراح على خد رشا نور الورد به والياسمين ومنها: وكأن الشمس لما أشرقت فانثنت عنها عيون الناضرين وجه إدريس بن يحيى بن علي بن حمود أمير المؤمنين الى أن قال، وهو يخاطب إدريس مباشرة: أنظرونا نقتبس من نوركم إنه من نور رب العالمين وعندها أمر الخليفة برفع الحجاب ثم كرم الشاعر وأحسن له. ومن الشعراء الذين اشتهروا على أرض البرتغال موسى بن عمران المرتولي، وهو من مدينة مرتولا، والذي قال: الى كم أقول ولا أفعل وكم ذا أحوم ولا أنزل وأزجر عيني فلا ترتوي وأنصح نفسي فلا تقبل أما ابن عبد البر المولود في شنتريم، فقد قال: أحب الذي يهوى عذابي دائماً وما لي فيه ما حييت نصيب هلال على غصن يميس نقاً وكل معاني حسنه فغريب ولابن سري الشنتريني المنسوب الى مدينة شنتر، أشعار طريفة منها: لإبنة الزند في الكوانين جمر كالدراري في دجى الظلماء خبروني عنها ولا تكذبوا ألديها صناعة الكيمياء سبكت فحمها سبائك تبر رصعتها بالفضة البيضاء كلما دل النسيم عليها رقصت في غلالة حمراء كما ورد آنفاً يصعب حصر جميع شعراء وأدباء الأندلس في البرتغالي في هذه المقدمة المبسطة، سواء من اشتهر منهم في داخل أراضيها أو خارجها. ولعل الظرف يسمح فقط بتسمية بعضهم من أبناء شلب مثل سليمان بن علي وابن الروح وابن المنخل، ومن أبناء لشبونه مثل ابن السوار وابن المنذر وابن موسى والبكري الطبيب المشهور، ومن أبناء فارو الشاعران ابن عالم وأبي صالح، ومن أبناء لولي بالغرب الفيلسوف المتصوف العرياني، ومن أبناء باجة الطبيب الجراح ابن سلمة، ومن أبناء مرتولا مثل ابن الفرج، ومن أبناء سانتاريم ابن البر الشنتريني وغيرهم من الأطباء والفقهاء ذوي السمعة والمكانة المرموقة. وقد اشتهرت بعض العوائل بإنجاب عدد من الشعراء والأدباء منهم عائلة هارون التي كانت تستوطن جنوبالبرتغال والتي حملت حاضرتهم اسمهم والذي بقي الى اليوم اسم لأهم مدنه، وهي مدينة فارو. وصفحات كتب تاريخ المنطقة حافلة بأسماء أعلام مثل هؤلاء، ومن المراجع المهمة بهذا الشأن كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" للعلامة أبي الحسن ابن بسام الشنتريمي نسبة الى مدينة Santarem والذي له الفضل الكبير في نقل وترجمة أعمال هؤلاء الإعلام وغيرهم من أدباء الأندلس الآخرين، حيث صنفهم حسب مسقط رأسهم، حتى أن كتابه هذا صار مرجعاً "أساسياً" بعد وفاته سنة 1148م، لمن جاء بعده من علماء كبار من أمثال لسان الدين الخطيب وابن خلدون والمقري التلمساني وغيرهم. ومن يطلب المزيد من المعرفة من جمهرة أدباء وعلماء العهد العربي القديم في الأندلس بصورة عامة بإمكانه الرجوع الى الكتب الآتية: الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب، الروض المعطار... لأبي عبدالله الحميري، نفح الطيب من غصن الأندلس الطريب للمقري. على رغم التخريب الذي أصاب معالم الحضارة العربية الإسلامية في البرتغال والذي كان على درجة أعلى مما حدث لمعالم تلك الحضارة في اسبانيا بسبب القسوة والتدمير الذي أمعنت فيه أفواج الصليبيين من نرمند - انكليز Anglo-Normands والذين كانوا متوجهين نحو بلاد المقدس في المشرق العربي عندما دعموا البرتغاليين لاسترجاع لشبونه وقصر بني دنيس وأوبيدش وشلب وغيرها من المواقع المهمة التي كانت تخضع للحكم العربي، فقد بقيت آثار تلك المعالم ولا يزال بعضها يتمتع بطابعه العربي الإسلامي وإن أصاب قسط منها بعض التشويه بسبب الترميمات العشوائية التي أجرتها السلطات البرتغالية بعدئذ على الأسوار والقلاع والمساجد في أماكن مختلفة. وتحاول السلطات البرتغالية الحالية الحفاظ على تلك المعالم الأثرية لأنها تشكل جزءاً من تاريخ البرتغال فأصبح بعضها يشكل مرافق سياحية مهمة منها: أسوار لشبونه وقلعتها القديمة، والقلاع الشامخة الجاثمة على مرتفعات سنترة وبليمله وسسنبره ومونتيمور وألريولش واستراموز ومروان الواقعة بالقرب من الحدود الإسبانية. أما في شمال لشبونه فهناك أوبدش التي استرجعها أهل البلاد الأصليين من العرب عام 1148م والتي تعتبر نموذجاً بديعاً للقرى العربية المحصنة والمحاطة بالأسوار، حيث أصبحت كعبة الزوار بعد ترميم قلعتها وتحويلها الى نزل للسواح. في منطقة محافظة ألنتيجو هناك العديد من المدن والقرى ذات الطابع العربي منها: مرتوله التي لا تزال الأعمدة والحنايا والمحراب داخل كنيستها قائمة الى اليوم، وباجه والتي لا تزال صومعة مسجد قديم شامخة فوق أسوارها. وعلى ذكر مدينة باجه، تجدر الإشارة الى أن العرب كانوا يطلقون عليها اسم باجة الزيت لتميزها عن مدينة باجة التونسية والتي لقبوها بباجة القمح آنذاك. ويبدو أن علاقة المدينتين استمرت حيث اهتمت السلطات البرتغالية والتونسية قبل بضعة أعوام بإقامة مهرجان باجة في كلتا المدينتين طالت الشؤون الثقافية وسط احتفالات رسمية وشعبية. في منطقة "النتيجو" أيضاً هناك مدينة صغيرة تسمى موره. ولهذه المدينة اسطورة وتتردد للدلالة على اسمها العربي الأصلي وهو أميرة، وملخصها أن أميرة عربية رمت بنفسها منتحرة من أعالي برجها القائم لحد الآن بعد أن وصلها خبر مقتل خطيبها في معركة ضد العدو البرتغالي. وهناك أساطير كثيرة تخص مدناً بمسميات ذات أصول عربية مثل مدينة فاطمة المشهورة بمكانتها المقدسة عند المسيحيين الكاثوليك. ويقال ان هذه المدينة قد سميت في غابر العهود بإسم فتاة عربية مسلمة أحبت مسيحياً من أبناء البلاد فتبعته لتتزوجه مما أغضب أهلها، ولكن أهل زوجها احتضنوها فاعتنقت المسيحية وعاشت في المدينة. بالواقع أن هذه المدينة اشتهرت بعد أن شاعت أسطورة رؤية العذراء، مريم أو المسيح، من قبل ثلاثة أطفال في مطلع هذا القرن فأصبحتا مزاراً مقدساً وكعبة للحجاج المؤمنين بالبركة ولطالبي الشفاعة. من أجمل معالم الحضارة العربية الباقية الى اليوم مدينة شلب والتي تتميز بقلعتها الوردية وسط حقول من أشجار الحمضيات والزهور. والمعروف أن هذه القلعة المبنية بالحجر الأحمر على قاعدة عالية ومسجدها قد بنيت أيام بني عباد الذين حكموا البرتغال من عاصمتهم أشبيليه، وكانت من أواخر معاقل الحضارة الإسلامية العربية في البرتغال. من جهة أخرى، تركت الحضارة العربية الإسلامية شواهد كثيرة على قوة تمركزها في البرتغال تظهر في لغة الأدب وفي اللهجات المحلية. فالعبارات الموروثة والمقتبسة من اللغة العربية تتجاوز الألف وخمسمائة يتردد استعمالها يومياً وخصوصاً في الأرياف الجنوبية. وبسبب صعوبة اللفظ أو لعدم وجود الحرف الهجائي في اللغة البرتغالية والذي يتطابق مع ما تحمله الكلمة العربية من حروف، يصعب استبيان الأصول العربية للعبارة المستعملة إلا بعد انتباه مقصود. فهناك كلمات كثيرة في اللغة البرتغالية ذات جذور عربية أو محوره من الأصل العربي مثل: ألخياط، ألمخدة، ألبحيرة، ألحلوة، ألمد، ألزيت، ألقرية، ألغصن، ألأرض، ألضيعة، ألسوق، ألقفة، ألقائد، ألقصر، ألقنطرة، ألفارس، ألقطيعة، ألعرض، ألحرية، ألجباب، أللقاط، فلان... إلخ. أما أسماء البلدان والأماكن ذات الأصل العربي فهي كثيرة أيضاً وتنتشر في أغلب أصقاع البرتغال. فبالقرب من العاصمة لشبونه، هناك قرية المعدن على نهر التاج والتي زارها الرحالة والجغرافي العربي المشهور الادريسي في أواسط القرن الثاني عشر ميلادي، وقال في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" انها مدينة بها منجم ذهب. كما توجد في نواحي لشبونه ضواحي عديدة تحمل أسماء عربية منها، قاسم وأبو عبدالله وتجيرة والخضرة وطاحونة والمقيم ومحفرة. أما في داخل مدينة لشبونه أو في ضواحيها، فتوجد أماكن بمسميات ذات جذور عربية منها البلاط والقنطرة والحمام وقلع اللوز. كما أن لجنوبالبرتغال مواقع وحواضر كثيرة لها مسميات عربية منها: ألمسيل ووادي أميرة وألمظفر وألبحيرة وبئر قائم وهارون وابن مولى والمغرب والقصيرة والجزر والحمراء والريحانة وابن سالم والغار... إلخ. فيما يخص العادات والتقاليد الموروثة من العرب، تأتي منطقة ألنتيجو في المقدمة بسبب تشابه الطبيعة وما اعتاد عليه العرب المسلمون في بلدانهم الأصلية، وبسبب مكوثهم الطويل فيها. وبعض هذه التقاليد والعادات لا يزال ملموساً في مجتمع تلك المنطقة سواء في أسلوب الاحتفال بالمواسم أو في الطبخ وصناعة الأجبان والخبز والحلويات، أو في اهتمامهم بالزراعة وحفظ الزيتون والكما. كما يظهر التشابه بين المجتمعين العربي والبرتغاليالجنوبي في الفعاليات الزراعية، كطرق الري وتوزيع المياه وسقي الأراضي وزراعة وحصاد الحبوب وحتى في تقسيم الأراضي الزراعية. وتجدر الإشارة الى أن من أشهر أنواع النبيذ المعتق الذي تنتجه هذه المنطقة واسمه الموسكتيل، له أصول عربية، إذ أن الكروم التي تستعمل في تخميره كان البرتغاليون قد جاءوا بها من مسقطعمان عند وجودهم هناك كمستعمرين لفترة طويلة من الزمن قبل انسحابهم في بداية القرن السابع عشر، تاركين وراءهم قلاعهم الشامخة على خلجان مسقط ومرتفعات عمان. * سابقاً وزير التربية في الجزائر، ثم سفير الجزائر الأسبق في البرتغال التي يقيم فيها حالياً. ** سابقاً أستاذ ومعاون عميد كلية الهندسة في جامعة بغداد، ثم الرئيس الأسبق للبرنامج العربي في منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية، يقيم حالياً في البرتغال.