قد لا يكون انفجار قضية رئيس بلدية طهران، السيد غلام حسين كرباستشي أو كرباسجي، بعد سوقه إلى سجن إيفين مخفوراً أو كالمخفور، وتهمته بالفساد والمخالفة المالية وضعف الأمانة، ومن ثم اطلاق سراحه، عَرَضاً يتهدد النظام الإيراني الخميني بعواقب وخيمة. فالكشف عن الفساد والتورط المالي قد يكون علامة على استقلال القضاء عن الإدارة والسياسة وتكتلاتهما، ودليلاً على قوة الخدمة العامة ويقظتها وسهرها على مصالح الدولة والمجتمع وحمايتها من المصالح الخاصة. لكن النحو الذي يتناول عليه القضاءُ المخالفةَ المنسوبة إلى سند السيد محمد خاتمي الأول، والطريقة التي يعالج عليها أركان الحكم الخميني وأقطابه المسألة، يدلان دلالة قاطعة على بعد أبنية "الدولة" الخمينية من مجرد الحدس في ما قد تكون عليه طرائق المعالجة القانونية والحقوقية لإدارة الدولة ومشكلاتها. فيتوسل القضاء، وهو على هذا سلطة قضائية مزعومة، بالتهمة والتحقيق فيها إلى التشكيك الشخصي والمعنوي والسياسي، ويحمل الظن على القطع واليقين، ويجني الثمار السياسية لمسلكه العصبي والفئوي، أو يعول على جنيها من هذه الطريق. وترد عصبية السيد كرباستشي على القضاء المفترض، والموصوف جهازه كله ب"المحافظة" نسبةً إلى رئيسه "المحافظ" وكأن القضاء مثل المجلس النيابي اللبناني جسم واحد ومتراص يتبع رأساً، ترد بكل الحجج والعلل ما عدا الحجة القضائية والإجرائية. فلم يجرِ على لسان السيدة فائزة هاشمي، ولا على لسان السيد مهاجراني أو السيد نوري، ولا على لسان غيرهم من أنصار السيد خاتمي، دفع قانوني لأفعال ما يسمى سلطة قضائية. فلم يطعن أحد في كفاية القرائن، ولا في استحقاقها التوقيف والجلب، ولم يشكك أحد في تجاوز دائرة الإجراء حد التنفيذ قياساً على أجوبة المتهم ودفوعه. فكأن ما أقدم عليه القاضي في حق كرباستشي غارة من غارات العصابات بعضها على بعض، غير محتكمة إلا إلى "شرع" المسْبعة أو إلى أعراف قطع الطرق المتغيرة والمتقلبة. فجاز لأنصار عمدة طهران، وهم أو بعضهم أنصار خاتمي وأنصار رفسنجاني، الرئيس السابق والنافذ الدائم، الطعن في "شباب" القاضي وضعف خبرته، على ما قال السيد نوري، وزير الداخلية. وتوعد السيد نوري "المحافظين"، ليس بمقاضاتهم وإحالتهم إلى هيئة دستورية تبت في الخلافات الناشبة بين الهيئات، بل بفضح مخالفاتهم المالية في إدارة "مؤسسة الشهيد"، كبرى الهيئات المالية الإيرانية ووريثة "مؤسسة بهلوي" الشاهنشاهية والمعروفة بفسادها وإفسادها. وإذا عزم السيد خامنئي، مرشد دولة الثورة ومرجعها الفقهي والشرعي، على التحكيم في الخلاف، من غير "تشخيصه" أو حمله على القضاء أو على السياسة، دعا أركان النظام إلى الاجتماع، وطلب إليهم "التهدئة" والعمل بوحي من مصلحة "الجمهورية الإسلامية"، وعلى كيد أعدائها أو ما يقرب من كيد الأعداء ويشبهه. وهي دعوة خفيفة في ميزان الدستور وفقهه وأحكامه، وتغفل عن قيود النص الأساسي على عمل الهيئات وعلى أفعال الأفراد الذي يصدرون عن الهيئات وتكليفها. ويدل هذا، وغيره مثله، على قصور الأركان القانونية التي تزعم الثورة الخمينية القبول بها، والإحتكام إليها. فالنهر الثوري الذي عاد إلى مجراه، أو يزعم له أنصاره هذه العودة، ورضخ إلى أحكام الاقتراع والدستور، على رغم ضعف شبه هذا بالدساتير الديموقراطية وقوة شبهه بالدساتير الحزبية والشيوعية، هذا النهر ما زال غير قادر على تمييز "شرعية" الأمور الواقعة بالقوة والعسف من الأمور التي توجبها قوة الحق والقانون وتضمنها قوة الدولة. فلا عجب إذا أدى الخلاف السياسي إلى انحياز هيئات "الدولة" المزعومة والمفترضة، وإلى سَفرها عن حالها على حقيقتها. فهي، أي الهيئات، معاقل قوى وعصبيات وروابط وأحزاب. ولا تتورع القوى والعصبيات هذه، عند احتدام أقل خلاف وأضعفه، عن زج الهيئات العامة والمحايدة في مشاحناتها والتوسل بها، وبقوتها، إلى أذى خصومها والنيل منهم وإضعافهم. فتُدخل القوى والعصبيات، المتصدرة الهيئات، مرافقَ الدولة في منازعاتها الخاصة، وتخرجها من عموم الدولة إلى خاص العصبيات، على ما جرى في مشهد واصفهان وطهران، وتظاهراتها وهتافاتها. فتقوِّض عمومية الدولة، وتحول دون استوائها مدبِّراً للشؤون المشتركة، وقاضياً في المنازعات، وحاكماً في أحوال الاختلال والتفاوت. ويترتب على تفاقم هذه الحال، أو على التحكيم فيها بواسطة توافق سياسي وشخصي تقضي به دالَّة أحد المحكمين السيد رفسنجاني أو السيد خامنئي، إظهار خواء الكلام على مجتمع إيراني مدني، وفراغ هذا الكلام. ففي وسع أي "مركز قوة" من مراكز القوى التي تتنازع "الدولة" الخمينية وتتقاسمها، والسيد محمد خاتمي شأن السيد علي أكبر هاشمي رفسنجاني من هذه المراكز، أن يحيل المطلب المدني، والحركة التي تسانده، إلى مسألة عصبية تعصف بالموازين القانونية والدستورية، وبالهيئات، وتتركها هياكل خاوية. ولم يعصم انتخاب فوق ثلثي المقترعين الإيرانيين السيد خاتمي، ولا أنصاره، من التوسل بمنطق الحرب الأهلية الذي ولدت الثورة الخمينية منه وما زال دستورها يرعاه. فإذا شاءت القوى المدنية والإجتماعية الإيرانية صيانة مكتسباتها، ولا شك في أن انتخاب السيد خاتمي من هذه المكتسبات، وإذا شاءت الحؤول دون ارتكاسها إلى منازعات مُلبْنَنة ودويلات حزب اللهية، فالإنضباط بقواعد المنازعة والخلاف، والقسر على هذا الإنضباط، وسن تشريعاته، هي شرط هذه الصيانة. وما لم تجرد القوى السياسية والعصبية الخمينية من متاريسها في الدولة وهيئاتها، لم يأمن المجتمع المدني التناثر عصبياتٍ متحاربة ومتقاتلة في كنف ولاية واحدة.