غداة انتخابات مجلس الخبراء، الإيراني والخميني، يبدو السيد محمد خاتمي، رئيس الجمهورية، على صورة رئيس الحكومة في نظام رئاسي، على شاكلة النظام الفرنسي، ولكن من غير ضمان الدستور الفرنسي لرئيس الحكومة، إذا هو اقترعت له كثرة غير الكثرة التي حملت رئيس الجمهورية إلى سدة الرئاسة، صلاحيات سياسية وإدارية واسعة. فينبغي مقارنة مكانة السيد خاتمي بمكانة رئيس حكومة أقحم إقحاماً على النظام الرئاسي الأميركي. فالرئيس الأميركي ورث، منذ 1778، تاريخ بعض التعديل على الدستور، سلطات المستعمر البريطاني، على نحو ما قيل، تيمناً ربما وتنديداً من غير شك، أن الرئيس اللبناني، الإستقلالي، ورث سلطات المندوب السامي الفرنسي. ومن حالُه حال خاتمي لا يحسد على حاله. فهو حظي وحده بثلاثة ملايين صوت فوق السبعة عشر مليوناً الذين اقترعوا لنحو ثلاثمائة وخمسين مرشحاً. وكان ترشحه ذريعة إقبال نحو تسعين في المئة من الناخبين على الإقتراع، بينما لم يشارك في انتخابات "الخبراء" إلا 47 في المئة من الناخبين، على رغم مناشدته، وأصحابه وأنصاره، الناخبين الإقتراع. وهو يتربع في الرئاسة من طريق الإقتراع المباشر. أما "وليه" و"فقيهه" و"مرجع تقليده" السياسي، وإن ليس الشرعي، فانتخب في اقتراع من الدرجة الثانية. وهذا الضرب من الإقتراع ليس ملزماً، على خلاف الإقتراع الأميركي. وعلى رغم هذا فالأوَّل ليس السيد خاتمي بل السيد خامنئي الخامنئي، على كتابة مقلديه ومن يتولونه" أما خاتمي فليس الخاتمي. لكن المقارنة بين الرئيس الإيراني ورئيس حكومة مقحم على نظام رئاسي تام ومتماسك، شأن النظام الأميركي، على سلامتها وصدقها النسبيين، تغفل عن وجوه من حال خاتمي ينبغي اعتبارها. فخاتمي صاحب "نظرة" و"خط" و"فكر"، شأن أمين عام الحزب الشيوعي السوفياتي عندما كان حاكماً، ولو على أفول. ويسمي أنصار خاتمي "فكره" "الحوار بين الحضارات"، على مثال "بيريسترويكا" السيد غورباتشوف. وفي "يوم الغطرسة العالمي"، ذكرى الاحتفال باستيلاء "الطلاب في خط الإمام" على السفارة الأميركية بطهران واحتجاز اثنين وخمسين موظفاً "محصناً" طوال 444 يوماً، احتفل بالذكرى "خطان"، على ما كان الشيوعيون الصينيون يقولون، و"فكران". والأغلب على الظن أن "الفكرين" يتقاسمان جمهور الإيرانيين. ولا ينفع أهل "الخط" الأعلى والمرشد، خط المزعومين محافظين، تقدمهم، فقهاً وولاية، على أهل "حوار الحضارات". فهم قلة في الدولة الإيرانية. والفرق بين وجهي حالهم، أي بين قلتهم في الجسم الإنتخابي ورجحان كفتهم في ميزان الولاية والأمر، نذير خلل لا تؤمن عواقبه على الإيرانيين. فهذا الفرق قرينة على ابتعاد الناخبين الإيرانيين من الدستور، وعلامة على جمود الدستور وتحجره على موازين انصرمت وتغيرت. وإذا استمر العمل بمثل هذا الدستور استقر الإيرانيون على فُصام سياسي واجتماعي وثقافي بين "البلد الدستوري" أو "الشرعي" وبين "البلد الحقيقي"، على ما كان القوميون المتعصبون الذين وَلَدوا الفاشية الفاشستية يقولون. وتدل بعض القرائن على أن عدوى الفصام أصابت أنصار خاتمي وبعض حلفائه. فقيل، ولم يكذَّب القائلون، إن بعض مرشحي خاتمي إلى مجلس الخبراء تكتموا على سياستهم ونسبتهم ورابطتهم. فترشحوا على صفة المستقلين. وفازت قلة قليلة وهي على هذه الحال من التكتم والتقنُّع. وأبقى الشيخ رفسنجاني، الرئيس السابق، على علاقته بأنصار خاتمي و"تياره"، من وجه، وعقد حلفاً مع "المحافظين" من خصومه السابقين وخصوم خاتمي اليوم، من وجه آخر. فجمع بين غرضيتين وعصبيتين وقبيلين. وهو يزمع، على ما كُتب، التوسل بطرفيه هذين إلى التربع في سدة رئاسة مجلس الخبراء، "صانع" المرشدين والأولياء الفقهاء ما دامت الجمهورية الخمينية. أي إن رفسنجاني، بدوره، يزدوج ويدخل في الإثنينية أو "التحولية"، على حسب التسمية الإيطالي للجمع السياسي بين المتباينين أو الأضداد. ويماشيه على ازدواجه وإثنينيته بعض أعلام أنصاره مثل السيد كرباستشي، رئيس بلدية طهران السابق والملاحق "قضائياً". فينتبه كرباستشي إلى بعد الشقة بين أصحابه وبين بعض حلفاء خاتمي "اليساريين" من دعاة التوجيه الإقتصادي. ويسوغ، من هذه الطريق، وقوع الطلاق بين حلفاء الأمس. وفي صف خاتمي يحمل أحد وزرائه، السيد مهاجراني، حملة شديدة على بعض الصحافة التي توالي خاتمي، وتندد بسياسة الإعلام الرسمي في شأن الخلاف بين أفغانستان الطالبانية وإيران الخمينية. فرد مهاجراني على صحيفة "طوس"، وكان رئيس تحريرها في السجن، وأنكر على الصحيفة تحفظها عن مبالغة التلفزيون والإذاعة في تعظيم خطر أفغانستان على إيران، وتصوير الحادثة التي نشأت عنها الأزمة في صورة الكارثة العظمى. بل ذهبت الصحيفة إلى أن المبالغة الرسمية إنما تدراي انقسام الإيرانيين، وتريد صرفهم عن انشغالهم بأحوالهم المعيشية المتردية. فلما أرجئت المرحلة الثانية من مناورات "ذو الفقار"، وأدرك التردي الإقتصادي القوات المسلحة اللجبة، وظهر صدق "طوس" ومن يرى رأيها، سكت أصحاب خاتمي، وداروا بالسكوت حرجهم. ويؤدي الإزدواج، إذا عمَّ، إلى خُلْف سياسي خطير. فالإقتراع العام إقرار بصدور السلطة والسياسة عن الجسم الإنتخابي وإراداته وانقساماته. فإذا عزلت الدولة، والولايات السياسية والإدارية، عن هذ الجسم كان معنى هذا أن السلطان يكمن بموضع بعينه، وفي "جسد" بعينه. فيدخل القدس في الدنيوي من غير حسيب ولا رقيب. فيتهاوى الظاهر الدستوري والشرعي، ويسفر القناع عن الوجه "المبرقع"، على ما روى بورخيس نقلاً عن الأخبار العربية والإسلامية. * كاتب لبناني.