لم يكن مشروع المقاومة في يوم من الأيام مشروعاً خاصاً بتنظيم معين، فقد كان وما يزال مشروعاً للشعب الفلسطيني بأسره من خلال تبني جميع القوى السياسية له. إذ انه وحتى هذه اللحظة لا يوجد هناك منها من يدعي أن هذا البرنامج قد استنفد أهدافه حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو. بل إن السلطة الفلسطينية نفسها عادت ومن خلال تنظيم "فتح" الى ممارسة أنواع من المقاومة الشعبية الانتفاضة في مناسبات محددة لتحقيق مكاسب سياسية معينة في إطار التسوية. ومن هنا، فإن مشروع المقاومة يحتاج الى وقفات تقييم. إن أبرز إنجاز تحقق حتى الآن هو تطوير وسائل المقاومة بحيث توقع أكبر الخسائر بالعدو مع تحمل أقل قدر من الخسائر في صفوف المقاومة، فالمواجهات الشعبية التي عبرت عنها الانتفاضة كانت تشكل إزعاجاً مستمراً للاحتلال بشكل دفعه للخروج من غزة، إلا أنها في الوقت نفسه كانت تكلف الكثير من الخسائر في الأرواح ولم يكن مقدراً لها الاستمرار بمشاركة فاعلة من الجماهير الى فترة طويلة. ومن اللافت للانتباه أن هذا التطور ترافق مع تطبيق اتفاق اوسلو في غزة وأريحا وبشكل جنب الشعب الفلسطيني الدخول في حرب أهلية نتيجة اختلاف القوى السياسية الفلسطينية حول التعامل مع المرحلة تلك، وربما الأهم من ذلك أن هذه الآلية حافظت على القضية الفلسطينية حية في إطار محاولات التذويب والإلهاء. ولا شك أن هذا الاستنتاج كانت تحوم حوله شكوك كثيرة قبل وصول التسوية إلى ما وصلت إليه، حيث تزايدت أهمية برنامج المقاومة كخيار استراتيجي للشعب الفلسطيني بوصفه البرنامج الوحيد القادر على إرغام إسرائيل على التجاوب مع مطالب الشعب الفلسطيني العادلة، بل حتى بعض المطالب المتعلقة بعملية التسوية - هذا في حالة اتخاذ السلطة الفلسطينية قراراً بذلك. واتخذ برنامج المقاومة لنفسه خطاً يتمثل بالرد على جرائم الاحتلال، الأمر الذي عزز من مصداقية هذا البرنامج وزاد من الالتفاف الشعبي حوله، وقلص الانتقادات الخارجية الموجهة له، لا سيما في ظل اتفاق أوسلو الذي رفع الغطاء السياسي عن المقاومة الفلسطينية عن طريق استبعاد دور المنظمة الدولية وقراراتها. ولكن من جهة أخرى فإن الانتقاد الأهم الذي يوجه لهذا البرنامج هو تركيزه على استهداف المدنيين الاسرائيليين بشكل يضاعف من رد فعل الاحتلال ويعطي المزيد من المبررات لوصف المقاومة العادلة التي يمارسها الشعب الفلسطيني بالإرهاب. وهذا الكلام صحيح من زاوية التداعيات السلبية لهذا الاسلوب من العمليات وليس من زاوية التشكيك في شرعيتها، ذلك أن العدو لا يجنب المدنيين الفلسطينيين بطشه، بل إنه يستهدفهم بشكل مباشر في الوقت الذي يحتمي فيه جنوده بحاجز السلطة الفلسطينية ويصعب على المقاومة استهدافهم. ولئن كان التقدير بأن تغيير هدف المقاومة والتركيز على جنود الاحتلال ومستوطنيه لن يقلل الى حد كبير من التداعيات السلبية لهذه العمليات لأن المطلوب اسرائيلياً واميركياً حرمان الفلسطينيين من امتلاك اي سبب من اسباب القوة التي تمكنهم من الضغط على الدولة العبرية للتجاوب مع مطالبهم المشروعة، الا ان ذلك لا يمنع من التشديد على مطلب التحول عن استهداف المدنيين على الرغم من صعوبته من ناحية ميدانية، وهو مطلب لا شك يمثل هماً وتطلعاً لقوى الشعب الفلسطيني لتحقيقه. ويقود هذا للحديث عن الاستثمار السياسي لبرنامج المقاومة والذي نظنه ضامراً بسبب عدم توافق الأطراف السياسية الفلسطينية على الاستفادة من التقاطعات بين برنامج اوسلو وبرنامج المقاومة، وهي تقاطعات موجودة وتحتاج الى ارادة سياسية باقتناصها خصوصا من السلطة الفلسطينية التي لا زالت حتى الآن تحجم عن ذلك مخافة ان تتعرض للمزيد من الضغوط الاسرائيلية. ولكن ينبغي عدم الاغراق في الأوهام بخصوص ما يمكن تحقيقه من مكاسب سياسية من هذا البرنامج بسبب اختلال موازين القوى بين الفلسطينيين والدولة العبرية، حيث فشلت كل المبادرات التي تقدمت بها "حماس" على صعيد الحقوق الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها الدولة المستقلة مقابل التوقف عن المقاومة لمدة زمنية محددة. كما ان نموذج اتفاق اوسلو السلبي هو خير دليل على ذلك، ويبدو من الواضح ان الاستثمار السياسي للمقاومة في الوقت الحالي يقتصر على تحقيق مكاسب محدودة مثل إطلاق سراح المعتقلين والتخفيف من الآثار السلبية للاحتلال، أما الهدف الأبعد للمقاومة فهو بلا شك إجبار العدو على إعادة النظر في مواقفه من الحقوق الوطنية الفلسطينية حتى ولو كان ذلك من باب حفظ أمنه من التعرض للخطر، كأن يقدم الاسرائيليون عرضاً شبيهاً بعرض لبنان اولاً والذي نعتقد أنه عرض جاد وإن كان في النتيجة يحمل ألغاماً بالنسبة لسورية ولبنان. على اية حال، لا يبدو في الأفق القريب انجاز محدد لبرنامج المقاومة، وهذا يتطلب الاستمرار به لمراكمة الانجازات وتجنب الوقوع في فخ استعجال المكاسب السياسية كما حدث في اتفاق اوسلو.