لطالما تحدث المفكر مالك بن نبي عن العالم الاسلامي معتبراً إياه محوراً يمتد من طنجة الى جاكرتا يواجه محاور اخرى. غير انه وهو يراهن عليه كان يعلل امراضه، والتي منها وربما اهمها ما سماه بالقابلية للاستعمار. فهل زالت تلك القابلية بعد ان تحررت كل الدول الاسلامية، والعربية منها على وجه الخصوص؟ يبدو أن القابلية للاستعمار تحولت الى حال من الجلد للذات والثورة على البنى الاجتماعية وتحطيم المعايير، وهي صارت حالة نفسية واجتماعية عامة تمثل السخط والاستنكار لواقع يزداد مأسوية وتتسع الهوة فيه يوما بعد يوم ليس بين الحكام والشعوب فقط وانما بين الجماعات والتيارات والافراد. تلك الحال هي ما يطلق عليها اسم "الارهاب"، وهو اسم - على رغم عموميته وتجسيده على ارض الواقع - لا يحظى باجماع من كل التيارات، اذ يرى فريق من الانظمة والمؤيدين لها ان ما تقوم به الجماعات المعارضة المسلحة هو عمل اجرامي يهدف الى ارهاب المواطنين وتدمير بناء الدولة. في حين يذهب القائمون به الى اعتباره مجرد عنف مضاد، سببه زيادة المظالم وكثرة المفاسد، ما يعني ان درء المفاسد وتحقيق العدل سينهيان الارهاب. وهذا ليس صحيحاً بالمرة، ذلك ان المفاسد والمظالم ليست جديدة في مجتمعاتنا الاسلامية وغير مقصورة عليها فقط. وبالمقابل فإن الاختلاف حول طبيعة الحكم ونمط السلطة هو باب يهدد بمزيد من التفكك في شبكة العلاقات الاجتماعية ويعيد طرح السؤال من يحكم من؟ وما مقاييس ذلك؟ والواقع ان الخلاف داخل مجتمعاتنا لم يعد فقط حول الاجابات المتعددة للسؤال السابق، وانما يتجسد يومياً ويزداد اتساعاًَ بقدر قابلية الناس للمشاركة في الاعمال الاجرامية. واذا كان ضرورياً معرفة الدوافع وراء حالتنا الراهنة، فد بات لزاماً علينا مواجهة هذا الخطر على المستوىين النفسي والاجتماعي، وذلك للحفاظ على الانسان لكونه لم يخلق عبثاً. فأرواح المسلمين اكبر وأهم من ان نقتلها او نبيدها لمجرد خلاف على الحكم او الفكر، او حتى على لقمة العيش ما دمنا نؤمن طبقاً للقناعة الدينية وحتى غير الدينية بقداسة الروح البشرية. مواجهة خطر الارهاب، الذي بتنا نشترك فيه جميعاً كل حسب موقعه، يبدأ من الثقافة والفكر اولاً. فالحال الراهنة لم نصل اليها الا بعد تراكمات ثقافية كرّست قوة افراد وجماعات بعينها، وجعلت تيارات فكرية تطغى على اخرى. وما حدث الآن هو ثورة من اجل الذات حتى لو كانت نتيجة تلك الثورة القتل! كم هي اذن سيئة حياتنا الثقافية، وكم فيها من لحظات الألم، ما دمنا تغيرنا نحو مزيد من الانهزامية؟ وهذه المرة ليس امام الآخر المستعمر بقوته المادية ولكن امامه في محاولة اللحاق به، حتى ان الممارسة الديموقراطية التي حاولنا تقليده فيها ادت الى تثبيت القابلية للارهاب. فبوسائلها المختلفة رفضاً أو قبولاً اكتشفنا حقيقتنا ونحن عراة على المستوىين الثقافي والفكري امام أنفسنا، وعرفنا كم اننا متعطشون للدماء من اجل تحقيق ما نراه عدلاً وإبعاد ما نراه ظلماً، وهو سلوك تنم عنه الاحادية في القول وفي الفعل. لا شك في ان كثيراً منا يعرفون خطورة المرحلة، لكن يقدمون لأنفسهم وللآخرين مبررات تحاول تطويع المقولات الفكرية لنجد بعدها تنظيراً للقيام بالارهاب. كما يحاولون دفع عامة المواطنين الى القبول بالاجرام الاكبر الذي هو القتل كبديل من الجرائم الصغيرة التي هي دون القتل، حتى ان احدهم قال مرة: "إن ما تقوم به جماعات العنف المسلحة يعتبر ثورة على الانظمة، ولا عجب اذا سقط ضحايا من المدنيين لأن لكل ثورة ضحايا". وقال آخر: "إن هناك اسبابا تجعل من الارهاب عملاً شرعياً". وقال ثالث: "اقتلوهم انهم عملاء للغرب وطواغيت". وقال رابع: "إن الانظمة في الدول العربية لا تملك الا ان تقتل عناصر الجماعة حتى النهاية...". هذه اقوال تمثل رؤى فكرية لأشخاص في مناطق متباينة من العالم الاسلامي تنتمي الى تيارات مختلفة - وانا هنا اتفادى ذكر الاسماء - تقدم في مقولاتها الفكرية ثقافة تحاول ان تؤسس عليها افعالاً بعد ذلك. فلا كلام عن اهمية التنوع في ثراء التجربة الانسانية ولا عن التمايز الطبقي بين افراد وجماعات المجتمع الواحد، ولا قراءة للنصوص الدينية بوعي يتجاوز سلبية المرحلة، ما يعني وصولنا الى ازمة فكرية تثبت من جديد قابليتنا لوضع مأسوي هو الارهاب. يلاحظ ان خوف البعض من مواجهته للعنف وللارهاب من داخل تنظيماته هو ان يتحول الى عدم اعتراف بقائد التنظيم. وبما ان معظم المنتمين الى تنظيمات سياسية ودينية يحبذون الولاء على إعادة النظر في الاقوال والممارسات، فإننا لن ننتظر حدوث تغيير في القريب العاجل. ليس هذا فقط، بل ان بعض كبار الدعاة يرفض ادانة العنف حتى لا يقع - كما يقول - في فخ الانظمة، لكن لا مانع عنده ان تزهق الارواح ظلماً يومياً. من ناحية اخرى فإن مختلف الوسائل الاعلامية تعمل على إشاعة ثقافة العنف على مختلف الأصعدة، خصوصاً ان الرأي العام صار متابعاً لأحداث العنف من دون تذمر او قلق او حتى خوف، ما قد يدفع مستقبلاً الى مزيد من الانتهاكات والتقتيل ما دامت القوانين لا تحكم الناس، وما دامت القوة هي سيدة الموقف: قوة تجعل القابلية للارهاب تزيد جماهيرياً، ومن اجل المواجهة وبقاء الدول، تزيد رسمياً ايضاً، ولذلك ما يبرره دائماً. واذا كانت المجتمعات الاسلامية قامت بحروب ضد المستعمر، فإنه من الصعب ان تقوم بحرب ضد الارهاب، لأنه عمل داخلي حتى وان جنت منه دول اجنبية مصالح ظاهرة او خفية. ونظراً الى حلول القابلية للارهاب وتحويل تلك القابلية الى ممارسة، فإن ملامح المرحلة المقبلة توحي بطول مدته مقارنة مع مرحلة الاستعمار، ما لم يتم تجميع كل القوى وفض الاشتباك بين اجنحة الامة على الصعيدين السياسي والثقافي، وهذا ليس بالأمر المستحيل.