لم ينج مجتمع من العنف منذ تاريخ البشرية حتى اليوم، تتعدد أسبابه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وما زالت الصراعات المتعددة الاتجاهات مصدراً مولداً للعنف والحروب الأهلية في كل مكان من العالم، تشهد المنطقة العربية اليوم واحداً من فصوله المأسوية. هذه الصراعات ولّدت، اضافة الى سفك الدماء وقتل البشر، نظريات وثقافة تبرّر هذا العنف وتعطيه شحنات وتعبئة أيديولوجية دافعة بقوة لاستمراره. طرحت منذ القدم أسئلة عن الثقافة التي يقوم دورها في تطوير الإنسان، وكيف تكون وسيلة في الحض على العنف والتشجيع عليه؟ لا شك في أنّ البشرية عرفت نظريات فكرية وثقافية تدعو تعاليمها الى استخدام العنف في سياق الدعوات لتغيير النظم السياسية وتغيير أنماط من الأنظمة الاجتماعية، ولم تقم حرب عالمية أو حروب أهلية من دون أن يكون لها مثقفوها ومؤدلجوها، بحيث يمكن القول إن علاقة جدلية نشأت، ولا تزال، بين السلطات الهادفة الى ممارسة العنف وبين الثقافة الموالية لها، فكلّ واحدة تتغذى من الأخرى وتبرر لها أعمالها. يطلق تعبير «العنف الناعم» على ذلك العنف الذي تمارسه الثقافة والفكر الذي تنتجه، قد يكون عبر كتّاب وفلاسفة على غرار ما يلصق بالفيلسوف الألماني نيتشه الذي يعتبره كثيرون الأب الروحي للأيديولوجية النازية. وقد يكون تعبيراً عن أيديولوجيات شمولية يقع في صلب فكرها استخدام العنف وسيلة لتحقيق أهدافها في الهيمنة على المجتمع والسلطة. ولعلّ الفكر الأصولي المتعدد المشارب، الديني منه وغير الديني، والحروب التي أنتجها سابقاً وينتجها اليوم، تصب في ميدان الثقافة المولدة للعنف والمبررة لاستخدامه. عرف التاريخ البشري، خصوصاً في قرونه الأخيرة، أنواعاً من الأصوليات التي أنتجتها أيديولوجيات شمولية، اتسمت بقواسم مشتركة. ليس صحيحاً ان الفكر الأصولي هو الناجم فقط عن الفكر الديني، فهناك أصوليات لا علاقة لها بالدين وبمقولاته. عرفت المجتمعات الاوروبية الأصولية النازية والفاشية التي ركزت على العرق الجرماني، وعرف العالم الأصولية الشيوعية التي رأت ان خلاص البشرية هو في ديكتاتورية البروليتاريا، وشكلت العلمانية في بعض الأقطار أصولية فعلية من خلال دعوتها لسيطرة الدولة على الدين، كما ان العلم نفسه لم ينج من تهمة الأصولية بالنظر الى تركيزه على خلاص البشرية عبر العلم. هذا طبعاً يضاف الى الاصوليات الدينية المتمثلة باليهودية التي وضعت التوراة في خدمة الحركة الصهيونية، والمسيحية التي جعلت الحق الإلهي بالسلطة قانوناً للحكم، ناهيك عن الأصولية الإسلامية التي ترى ان «الإسلام هو الحل». هذه الأيديولوجيات الشمولية ونتاجها من الحركات الاصولية، يجمعها قاسم مشترك يقوم على الاصطفائية وامتلاك الحقيقة المطلقة بل واحتكارها. يتقاطع في هذا المجال مثلث مترابط الأطراف يتمثل بالحقيقة – المقدس – العنف. في الأديان، تتجلى هذه القضية من خلال اعتبار كل دين لنفسه، وكل طائفة تنتمي اليه انها تحمل مفاتيح الحقيقة، وانها الفرقة الناجية، فيما سائر الفرق تقيم في الضلال. وينسحب الأمر نفسه على الأصوليات غير الدينية والتي لا تقل تعصباً في تأكيدها على كونها وحدها حاملة الحقائق ومنتجتها. يؤدي القول باحتكار الحقيقة الى احتقار الفكر الآخر ورفض الاعتراف به مساوياً في الحقوق والواجبات، كما ينجم عن امتلاك الحقيقة المنجدلة بالاصطفائية فكر استبدادي وتعصب أعمى. فحقائق الأصوليات تتسم بالتقديس، ومن يخالف هذه المقدسات يستحق العقاب ويعتبر استخدام العنف عليه مسألة تتسم بالشرعية. وهذا الاحتكار للحقيقة، إضافة الى التعصب والدوغمائية التي يحملها، فإنها تدفع الى رفض الآخر التي لا يؤمن بها، بما يجعلها على النقيض والعداء مع فكر الديموقراطية بما هي الاعتراف بالآخر والتعددية والمساواة في الحقوق. لم تبق الأيديولوجيات الشمولية وأصولياتها مجرد نظريات فلسفية او أطروحات معلقة في الهواء، بل كانت لها ترجمتها على الأرض تمثلت أفكارها في تبرير أبشع الحروب. فالأصوليات الدينية، المسيحية منها والإسلامية، تسببت بحروب مرعبة على امتداد تاريخها، وقضت على مئات الآلاف من البشر. والأصولية الصهيونية، تحت شعار توراتي مزعوم بأن فلسطين هي أرض الميعاد، أمعنت ولا تزال في قتل الشعب الفلسطيني على امتداد قرن من الزمان، وأقرنت كل مستنكر لسياسة اسرائيل القمعية بأنه معاد للسامية. أما الأصوليات النازية والفاشية، فتحت شعار العرق الاصطفائي خاضت حروباً عالمية وتصفيات وإعدامات لم تخرج المجتمعات الأوروبية من آثارها حتى اليوم. وباسم الإنسان والإنسانية التي تقول بها الاشتراكية، جرت تصفيات وإعدامات في بلدان المعسكر الاشتراكي وصلت الى الملايين. كل هذه المجازر على مختلف أنواعها، كانت تحظى بتغطية أيديولوجية وثقافة تبررها وتعطي الحق في تنفيذها. في العصور الحديثة، ومع انفجار ثورة المعلومات والاتصالات، بات الإعلام عنصراً من عناصر نشر ثقافة العنف. لم يعد العالم مساحات وأزمان، بل بات «قرية صغيرة» يمكن لأي فرد في العالم ان يعرف ويشاهد ما يجري في سائر أنحاء العالم. ان ركض الإعلام وراء الخبر والسعي الى تضخيم الأحداث، والافتنان بنشر صور القتلى والجرحى والدمار، كلها عوامل تساعد في تأجيج العنف لدى المواطن العادي. ان حجم الإرهاب الذي نجم عن الحروب الأهلية والعالمية، مقروناً بالاستبداد السياسي المولد بطبيعته لاستخدام العنف وثقافته، كان عاملاً أساسياً في ولادة ثقافة مناهضة للعنف والحروب وللعوامل الثقافية والفكرية التي خلقتها. هكذا شهد العالم ولا يزال نشوء ثقافة الديموقراطية الداعية الى الاعتراف بالآخر والى المساواة في المواطنية بصرف النظر عن الدين او الجنس او العرق. كان الإعلام العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأممالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية أحد أبرز انجازات ثقافة ترفض العنف وتشدد على تسوية النزاعات بالطرق السلمية. يعطف هذا الإعلان على ثقافة تعود الى ثلاثة قرون خلت قادها فكر الأنوار في أوروبا وجسدها عدد واسع من المفكرين والفلاسفة، الذين دفع قسم كبير منه اضطهاداً على ما قالوا به ونشروه. ان الصراع بين ثقافة العنف وثقافة الديموقراطية هو صراع مفتوح دوماً طالما ان البشرية تسكن الأرض.