في العالم الذي لا يعيش فيه الا قلة قليلة من منتجي أسرع الكومبيوترات وأقواها في العالم يقف بيرتون سميث نسيج وحده وآخر من بقي من هذه القلة. وبيرتون سميث رجل ضخم متغضن يتكلم بهدوء وتؤدة وينتمي الى عهد كان فيه رجال مثل سيمور كري وستيف تشن وداني هيليس يتنافسون على تصميم أفضل الكومبيوترات السريعة الضخمة وتجميعها بصبر وطول نفس وانتاجها واحداً بعد الآخر. لكن شركة سيليكون غرافيكس استملكت شركة كري الاولى "كري ريسيرش" عام 1996 فيما انهارت شركته الثانية "كري كومبيوتر" بعدما توفي في حادثة سيارة عام 1996. اما شركة هيليس "ثينكينغ ماشينز كورب" وشركة تشن "سوبر كومبيوتر سستمز انك" فقد أفلستا عندما تراجع بيع الاجهزة للشركات. وفي الوقت الحاضر يجري تجميع اجزاء معظم كومبيوترات العالم ذات الاداء الممتاز كما تجمع اجزاء لعبة "الليغو"، أي بتجميع مئات أو آلاف المعالجات والشرائح التي تنتجها حفنة من الشركات التي منها "سيليكون غرافيكس" و"انتل" و"صن مايكروسستمز" و"آي. بي. ام". وتزداد هيمنة هذه الكومبيوترات المتطابقة أو المتوازية التي تدعى MPP على سوق الكومبيوترات ذات الاداء الممتاز الدولية، وهي الكومبيوترات التي تضم اعداداً كبيرة جداً مما يدعى "القاتلات الصغيرة" التي بوسعها تحقيق سرعات كومبيوترية حسابية كبيرة جداً من طريق تحليل أو تفكيك المشاكل الكبيرة الى مشاكل صغيرة جزئية يمكن حلها على نحو متزامن. ومما يدعو الى العجب ان بيرتون سميث، الذي تطل مكاتبه على بحيرة "ليك يونيون"، يوشك ان يحقق شيئاً ظنه المشككون مستحيلاً ألا وهو انشاء شركة جديدة تنتج كومبيوترات ضخمة فائقة القوة والسرعة مستندة الى طريقة جديدة في المعالجة المتوازية المتطابقة. وبعدما أمضى بيرتون سميث عقداً من الزمن يعمل في مختبره، حقق اخيراً حلماً من أحلامه ووضع "حصرمة في عيون حساده" عندما ركّب مركز "سان دييغو سوبر كومبيوتر سنتر" النظام الأول الذي باعته شركته المسماة "تيراكومبيوتر كومباني". وضمنت وزارة الدفاع الاميركية حالياً انتاج النظام الذي يكلف 1.6 مليون دولار بالاشتراك مع "المؤسسة الوطنية للعلوم" الاميركية. ولا تزال الاوساط المعنية تعتبر شركة "تيراكومبيوتر" مغامرة كبيرة، ومن هذه الاوساط حتى الذين يشجعون الشركة ويدعمونها كلامياً. ولم يكن ما انجزته الشركة سهلاً بالنسبة الى مهندسيها، فلا يعمل حالياً الا معالج واحد مما قد يكون قريباً كومبيوتراً ضخماً فائق القوة والسرعة بستة عشر معالج وذلك بعدما تأخر هذا المعالج عاماً كاملاً وأكثر في البدء في عمله. ولا يزال مهندسو الشركة يحاولون حلحلة ما يجدُّ من مشاكل في آخر لحظة. ومع هذا كله لا يوجد من هو على استعداد للتكهن بأن بيرتون سميث لن يفلح في آخر المطاف. وثمة عدد كبير من الذين يعتقدون ان جهازه، متى اكتمل وصار فاعلاً، سيهز عالم الكومبيوتر. ويقول هيليس، الذي يعمل حالياً في مجال الابحاث لحساب شركة "والت ديزني كو": "أُعجب بمثابرته وطول أناته وهو آخر مصمم مستقل للكومبيوترات الضخمة القوية". ويذكر ان الكومبيوترات الضخمة القوية التي بوسعها حل عدد كبير من المشاكل في وقت واحد بأسرع ما يمكن من الوقت في أي فترة زمنية، استخدمت أولاً في تصميم السلاح النووي وفي التكهن بالاحوال الجوية لكن المعنيين يزدادون استخدامها في التطبيقات المختلفة المتنوعة التي منها تصميم الادوية ومحاكاة ما يحدث لدى اصطدام سيارتين مثلاً. ولكن بالنظر الى انتهاء الحرب الباردة وتراجع الانفاق الحكومي على تمويل انتاج الكومبيوترات الضخمة القوية السريعة، فيما تزداد قوة الاجهزة المنضدية، باتت الابتكارات تأتي بازدياد وأولاً من عالمي الكومبيوتر الشخصي والاجهزة الالكترونية الاستهلاكية. وأدى هذا كله الى تراجع الابحاث الخاصة بتصاميم كومبيوترية جديدة وبات عدد الشركات، التي تحاول انتاج اكثر المعالجات قوة وذات ال 64 قطعة والتي يحتاج اليها عالم الكومبيوتر لسوق الجيل المقبل من الكومبيوترات، قليلاً جداً. وعندما توفي كري عام 1996، شعر عدد كبير من مصممي الكومبيوتر ان "الفصل الاخير من الكتاب" الخاص بصناعة، كان الاعتقاد السائد في منتصف الثمانينات انها حاسمة الاهمية لبقاء الولاياتالمتحدة ذات قيمة من الناحية التكنولوجية، قد كُتب وانطوى الكتاب وقضي الامر. لكن الذين شعروا ذلك الشعور وتكهنوا بزوال صناعة الكومبيوترات الضخمة القوية لم يحسبوا حساب بيرتون سميث الذي يقول: "أشعر بالتفاؤل الكبير حيال وضعنا الراهن رغم ان معظم العاملين في عالم الكومبيوتر يعتقد اننا معتوهون". ورغم تفاؤل سميث يوجد في عالم الكومبيوتر من يشكك جدياً بحظوظ شركته في البقاء حية فاعلة في عالم يزداد انسجاماً وتشابهاً وتجانساً وتهيمن عليه حفنة من الشركات الدولية العملاقة. ويقول لاري سمار، مدير "المركز الوطني لتطبيقات الكومبيوترات الضخمة القوية" في بلدة اوربانا - كامبين في ولاية إللينوي: "لقد تبدلت صناعة الكومبيوترات الضخمة القوية كثيراً في خلال نصف العقد الماضي. ولن تستطيع البقاء حية فاعلة الا الشركات التي تحركها قوى السوق والتي تنشط على نحو لا يستهان به في مجال الكومبيوترات المنضدة". أما غوردن بِلْ، مصمم اجهزة الكومبيوتر المعروف فيحب ان يصف نظام تيرا الجديد ب "حماقة بيرتون". ويعتقد معظم كبار الناشطين في صناعة الكومبيوتر ان معظم الانظمة الحاسبة الاسرع ستستند، في خلال العقد الأول من القرن المقبل، الى الشريحة "ميرسد" المعالجة الدقيقة المؤلفة من 64 قطعة التي تصممها كل من شركتي "انتل" و"هيوليت بكارد". لكن توجد سوق لا يستهان بها للاجهزة ذات الاداء الممتاز في السوق الفنية وفي "سوق" الابحاث العلمية وابحاث الشركات. وتستخدم قطاعات مختلفة متنوعة، منها صناعة الطيران والمصارف، كومبيوترات تجارية بالغة السرعة في تطبيقات مثل حجز السفر الجوي وانجاز "معاملات" بطاقات الائتمان. وفي تقدير "انترناشونال داتا كورب" ان قيمة سوق الانظمة الفنية ذات الاداء الممتاز بلغت 57.3 بليون دلار عام 1997 الماضي، فيما تتكهن مجموعة غارتنر بأن هذه القيمة نفسها ستبلغ خمسة بلايين دولار العام الجاري. وستبيع معظم هذه الانظمة ثلاث شركات هي "سيليكون غرافيكس" و"اي بي ام" و"صن مايكروسستمز". وبالمقارنة مع مبيعات هذه الشركات العملاقة ستكون مبيعات "تيرا" العام الجاري ضئيلة جداً. وفي تقدير سولومون براذرز ان ايرادات الشركة ستكون 49 مليون دولار عام 1998 الجاري وستزداد الى 106 ملايين دولار عام 1999 المقبل. وتتكهن سولومون براذرز بأن "تيرا" ستسجل ربحاً العام الجاري. واكثر ما بهر عدداً كبيراً من كبار العاملين في عالم الكومبيوترات القوية الضخمة مهارة سميث في الموازنة بين الاجهزة والبرامج. ففي العام الماضي تمكنت آلة من آلات "تيرا" من كسر الرقم القياسي في مجال السرعة في فصل الاعداد الصحيحة عن غيرها مسلحة في ذلك بمعالج واحد فقط. ويستند تصميم هذه الآلة، الى حد كبير، على رفض سميث القبول بالفكرة القائلة بأن أفضل طريقة لحل أية مشكلة حسابية تكمن بكل بساطة في تجميع اعداد تتزايد باستمرار من الشرائح المعالجة الدقيقة. فهو يعتقد بالفعل انه أوجد طريقة للتغلب على نقطة الضعف الرئيسية بل قل "مقتل" الكومبيوترات القوية الضخمة المتطابقة المتوازية، وهي ما يشير اليه مصممو الاجهزة ب "كمون الذاكرة" أو "استتارها" الى ان تدعو الحاجة اليها أي الوقت الضائع في الكومبيوتر القوي الضخم التي تمضيه المعالجات الدقيقة في انتظار معلومات جديدة. وسببت هذه العقبة نشوء فجوة كبيرة جداً بين ما يسميه الباحثون "قمة الاداء النظرية" وبين "الاداء المستمر" في قياس سرعة الكومبيوتر في حل المشاكل أو اعطاء الحلول. فالوصل بين مئات من المعالجات الدقيقة ذات السرعة الفائقة لا يضمن تسجيل أو حدوث سرعات كومبيوترية كبيرة. ويهدف نظام سميث الى العمل على نحو مماثل لعمل مجموعة من السكرتيرات. فحالما ينهي معالج من المعالجات انجاز مهمة يبدأ تنفيذ مهمة اخرى جديدة يأخذها من مجموعة كبيرة من المهمات التي تنتظر الاداء أو التنفيذ ضامناً بذلك استخدام المعالجات كافة على نحو فعال. وستؤثر طريقة تيرا، اذا أفلحت، على عالم الكومبيوتر كله لأن المشكلة التي تزداد حجماً وأهمية في هذا العالم هي تنامي عدم التوازن بين سرعة المعالج وسرعة الذاكرة. وتمضي حتى المعالجات في الاجهزة الشخصية المنضدية قسماً كبيراً من الوقت المتاح لها في انتظار "ورود" معلومات جديدة. ويحل تصميم "تيرا" هذه المشكلة الى حد بعيد. وثمة عقبة اخرى يشكو منها عالم الكومبيوتر المتوازي المتطابق منذ فترة طويلة قد يحلها كومبيوتر "تيرا" القوي الضخم. فالكومبيوترات المتوازية المتطابقة الاولى شكلت تحديات برمجية ضخمة بالنسبة الى مصممي البرامج الذين اعتادوا تصميم التطبيقات لمعالجات منفردة. واكتشف المعنيون ان تكييف البرامج، التي قد تتكون من ملايين السطور من الشفرة، لجعلها تتناسب مع كومبيوترات فيها عدد كبير من المعالجات، هو اكثر صعوبة مما كانوا يعتقدون في البدء. لكن سميث يعتقد انه اكتشف كومبيوتراً ضخماً قوياً سريعاً بوسعه حل مشاكل علمية شائكة من خلال تجزئة كل منها الى "مشيكلات" مشكلات صغيرة يمكن حلها كافة آلياً وعلى نحو متزامن، وهذا الكومبيوتر هو جهاز تيرا الذي يراوح سعره بين خمسة ملايين و40 مليون دولار طبقاً لعدد المعالجات في الجهاز وهو العدد الذي يبدأ بثمانية معالجات ثم يزيد. وقد تكشف التجارب ان طريقة تيرا أفضل من اجهزة الكومبيوتر الضخمة القوية السريعة الاخرى التي قد تكون سرعتها القصوى اكبر. وفي اعتقاد سميث انه سيتلقى طلبات تجارية العام الجاري من شركات مثل تلك التي تنتج طائرات وسيارات والتي تتبنى برامج محاكاة كبيرة كلما انتجت نموذجاً جديداً. ويأمل في ان يبيع جهازه الجديد الى وكالات الاستخبارات الحكومية والى مختبرات الابحاث. والحقيقة هي ان مشروع "تيرا" تلقى في البدء دعماً من "وكالة مشاريع الابحاث المتقدمة المتطورة الدفاعية" التابعة لوزارة الدفاع الاميركية والتي تتولى القيام بالابحاث لحسابها عندما تخلى سميث عن العمل في "مركز الابحاث الخاصة بالكومبيوترات السريعة القوية الضخمة" في ميريلاند الذي صار حالياً "مركز العلوم الكومبيوترية"، وذهب الى سياتل ليؤسس شركة "تيرا" عام 1988. وأمضى سميث، الذي عشق رياضيات الكومبيوتر فيما كان يدرس في معهد مساتشوسيتس التكنولوجي في خلال الستينات، ثلاثة اعوام يعمل في "مركز العلوم الكومبيوترية" الذي يشكل ملتقى العالم الاكاديمي مع وكالة الأمن القومي الاميركي التي تنشط بسرية تامة. وذهب سميث ليعمل في ذلك المركز بعدما أفلست شركة سابقة تنشط في مجال الكومبيوترات القوية السريعة الضخمة في دنلكور في ولاية كولورادو. وكان سميث مصمم أو مهندس كومبيوتر "دنلكور هب" الذي كان أول كومبيوتر تجاري متواز متطابق، وذلك في مطلع الثمانينات. وأفلست دنلكور عام 1985 عندما لم تعثر على سوق تجارية يمكن الركون اليها لمنتجاتها. لكن هذا كله لم "يزجر" سميث ولم يثبط عزائمه فقد تمكن من تجميع اكثر من 47 مليون دولار من أجل تطوير "كومبيوتر تيرا ام تي اي" السريع القوي الضخم وينوي اضافة معالج ثانٍ الى جهازه الأول وذلك في مركز الكومبيوترات السريعة القوية الضخمة في سان دييغو في وقت لاحق من الشهر الجاري. وينعم سميث بتأييد عدد كبير من نخبة العلماء والمهندسين الذين يشكلون معاً نادي الخبراء الاميركيين في الاجهزة القوية السريعة. ويقول روبيرت بورشرز، مدير قسم العلوم الكومبيوترية المتقدمة في "المؤسسة الوطنية للعلوم": "يفهم بيرتون سميث حدود اداء الاجهزة الراهنة ذات الاداء الممتاز فهماً عميقاً". ومما حمل مسؤولاً كبيراً في الاستخبارات الاميركية على الطلب من سيد كارين، مدير "مركز الكومبيوتر القوي السريع" في سان دييغو، ان يدعم تيرا أو ان يساهم في هذا الدعم اعتقاد هذا المسؤول ان سميث هو من القلة المستقلة المتبقية التي تبتكر في مجال تصميم اجهزة الكومبيوتر. ويقول كارين ان المسؤول الاستخباراتي قال له: "ليس لدينا الكثير من المهندسين المبتكرين مثل بيرتون سميث وسيمور كري ولهذا يحتاج امثال هؤلاء الى الدعم والرعاية".