كنت من اوائل الذين انتقدوا اعلان المبادئ اتفاق أوسلو الذي جرى التوقيع عليه في 13 ايلول سبتمبر 1993. فقد نقلت هيئة الاذاعة البريطانية باللغة الانكليزية وقائع حفلة التوقيع في واشنطن حية، وأعطي لي وللمفكر اليهودي المعروف حاييم برمانت المجال للتعليق لمدى ساعة تقريباً. وانتقادي لاعلان المبادئ كان لسببين رئيسيين: أولهما انه محشو بالعبارات المطاطة والمبهمة، وثانيهما ان فيه انتقاصاً للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ولم أذكر في ذلك الحين سبباً آخر لعدم رضاي عن اعلان المبادئ، وهو انه جاء فجأة ومن وراء ظهر اعضاء المجلس الوطني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وغيرهم من الفلسطينيين وكنت أنا واحداً منهم ممن اجتمعوا في لندن لبضعة ايام بدعوة من الرئيس ياسر عرفات وناقشوا وحددوا الاعتبارات التي يتوجب ان يسعى اليها المفاوض الفلسطيني اذا ما سنحت له الفرصة للمشاركة في حوار مع الجهات الاسرائيلية. وبعد حوالي ستة أشهر من التوقيع على اعلان المبادئ جاءني طلب عاجل من الاخ الرئيس ياسر عرفات للحضور في الحال الى القاهرة للمشاركة في مفاوضات تجري مع الجانب الاسرائيلي. ومع انني كنت مستاءً من عملية اعلان المبادئ بأكملها الا انني شعرت بأنه قد تتوفر لي الفرصة لتعديل الامور. فتوجهت في أول طائرة الى القاهرة، وعينني الرئيس عرفات رئيساً للوفد القانوني الذي ضم ايضاً الاستاذ طاهر شاش الخبير القانوني سابقاً في وزارة الخارجية المصرية الذي كان مستشاراً للرئيس أنور السادات في عملية كمب ديفيد، والسيد خالد القدرة الخبير القانوني والمناضل الفلسطيني المعروف الذي تعين في ما بعد نائباً عاماً في السلطة الفلسطينية. وعقدنا في الحال اجتماعات للتنسيق مع مختلف اللجان الفلسطينية. وبدأت في فندق "الشيراتون" اجتماعات لجنتنا القانونية مع اللجنة الاسرائيلية المؤلفة من خمسة اعضاء. وبعد أول اجتماع فوجئت بقرار من السيد طاهر شاش بالانسحاب من اللجنة الفلسطينية. وفهمت ان السبب في ذلك كان شكوى السيد شاش بأنني كنت متشدداً في مناقشاتي مع الجانب الاسرائيلي، ولأنني لم أراعِ واحترم بالقدر الكافي مكانته وخبرته ولم أكن اعرف حتى تلك اللحظة انه كان مستشاراً للوفد الفلسطيني في أوسلو في صياغة اعلان المبادئ. وفي جلسة في مطلع المناقشات أشار الوفد الاسرائيلي الى المادة الرابعة في اعلان المبادئ التي تنص على ان صلاحيات المجلس الذي سينتخبه الفلسطينيون لادارة شؤونهم في الضفة الغربية وقطاع غزة "لا تشمل المواضيع التي سيجري التفاوض عليها في مفاوضات الوضع النهائي". وأشار الوفد الاسرائيلي الى التفسير المعتمد لهذا النص كما ورد في "سجل المحاضر المتفق عليه" AGREED MINUTES والملحق باعلان المبادئ الذي يحدد هذه المواضيع كالآتي: "القدس والمستوطنات والمواقع العسكرية والإسرائيليون". وقال رئيس الوفد الاسرائيلي ان من الضروري ايضاح تفاصيل هذه الامور والاتفاق على ذلك بين الطرفين قبل السير في المفاوضات. ووافقتُ بالطبع على ذلك. قال أولاً "القدس". وأضاف ان هذه العبارة واضحة لا تحتاج الى نقاش. قلت انني أجد من الضروري تعيين حدود المدينة واقترحت التفرقة بين القسم الشرقي والقسم الغربي منها. وكان الجواب ان هذا مرفوض وان القدس وحدة متكاملة وانه لا حاجة لتحديد معالمها لأنها معروفة للجميع وان المدينة بأكملها "عاصمة اسرائيل الابدية". ثم انتقل الحديث الى "المستوطنات". قالوا ان هذه العبارة لا تعني فقط الأرض التي بُنيت عليها المستوطنات، لأن المستوطنة - حسب رأيهم - في حاجة الى منطقة مجاورة لرعي اغنامها مثلاً اذا كانت عندها اغنام، وهي في حاجة ايضاً الى ضمان موارد المياه الضرورية لها، وهذه قد تقع خارج المنطقة التي أُقيمت فيها المستوطنة. وقالوا ايضاً ان المستوطنة في حاجة كذلك الى الطرق التي تربطها بغيرها من المستوطنات وبالأرض الاسرائيلية. وأضافوا ان المستوطنة أيضاً تحتاج الى منطقة جغرافية حولها كحزام امني يضمن سلامتها من أي اعتداء من الخارج. وهكذا اتسعت رقعة المستوطنة واصبحت مساحتها اضعاف مساحة المباني فيها. بعد ذلك تحدثنا عن "المواقع العسكرية". سألنا عن قائمة بهذه المواقع فأجابوا ان المواقع العسكرية هي الاماكن التي يوجد فيها الجيش الاسرائيلي في اي وقت كان ولأي سبب كان وبغض النظر عن وضع هذه المواقع قبل وجود الجيش الاسرائيلي فيها. بعبارة اخرى المنطقة التي كانت ضمن نطاق صلاحية السلطة الوطنية الفلسطينية تصبح "منطقة عسكرية" خارج صلاحيتها اذا ما دخلها الجيش الاسرائيلي في أي وقت كان. وأخيراً انتقلنا الى تحديد مفهوم عبارة "الاسرائيليون". قالوا ان هذه العبارة لا تعني مجرد الاشخاص الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية الرسمية وان الشركات التجارية المؤسسة في اسرائيل تعتبر اسرائيلية لهذه الغاية بغض النظر عن هوية الافراد المالكين لرأس المال فيها وجنسياتهم. وأضافوا ان هذه العبارة تشمل "المقيم الدائم في اسرائيل". ولما سألت عن معنى "المقيم الدائم" بالضبط قالوا "الانسان الذي اقام في اسرائيل لمدة طويلة". ولما سألت عن معنى "مدة طويلة" قالوا لا حاجة لتعريف هذه العبارة لأن مفهومها واضح. قلت: هل عشر سنوات مثلاً "مدة طويلة" لهذه الغاية بينما تسع سنوات ونصف لا تكفي؟ قالوا انني اهتم بالتفاصيل وهذا مضيعة للوقت. وفي الختام قالوا ان عبارة "الاسرائيليون" تشمل كذلك المواطنين الاجانب الذين يمرون في أراض تابعة للسلطة الفلسطينية اذا كان هؤلاء سياحاً في طريقهم الى اسرائيل أو في طريق عودتهم منها. وبعبارة اخرى، فإن مثل هذا السائح اذا ما اتهم بجريمة ارتكبها في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية لا يمكن محاكمته عليها اذا ادعى انه سائح ذاهب الى اسرائيل أو عائد منها ويجب على السلطة الفلسطينية ان ترفع يدها عن الموضوع وتحوله الى السلطة الاسرائيلية. سألت بعد ذلك عما اذا كانت هذه العبارة تشمل شخصاً غير اسرائيلي وجد في غزة اذا اتهم بارتكاب جريمة فيها وادعى عندئذٍ انه قد بدأ يوفر فلوساً ليشتري بها تذكرة ليذهب بها الى تل ابيب كسائح... هل يعتبر هذا الشخص خارجاً عن نطاق صلاحية السلطة الفلسطينية؟ قالوا انني استهزئ بهم. وكان ردي انهم هم الذين يستهزؤون بي ويستهزؤون بالفلسطينيين. وفي اليوم نفسه تأجلت المفاوضات بأكملها لاسبوع باتفاق الطرفين. وقررت انا عندئذٍ الانسحاب من المفاوضات وعدت الى بريطانيا. وطالعت كغيري من الناس الاتفاقية من 98 صفحة التي تم التوصل اليها في القاهرة في 4 ايار مايو 1994. ولم يكن لي أي دور في صياغة هذه الاتفاقية أو التدقيق فيها. لقد نصت المادة الخامسة عشرة من اعلان المبادئ على ما يأتي: "1- الخلافات التي تحصل حول تطبيق وتفسير اعلان المبادئ هذا أو حول أية اتفاقيات لاحقة حول الفترة الانتقالية تتم تسويتها بالمفاوضات في لجنة الارتباط المشتركة التي ستقام بمقتضى المادة العاشرة. 2- الخلافات التي لا يمكن تسويتها بالمفاوضات يجوز حلها بواسطة جهاز لتقريب وجهات النظر يجري الاتفاق على اقامته بين الطرفين. 3- للطرفين ان يحولوا للتحكيم أي خلاف حول الفترة الانتقالية لا يمكن تسويته بالتوفيق والاسترضاء، ولهذه الغاية، وبموافقة الطرفين، يقيم الطرفان لجنة للتحكيم". بيت القصيد في هذا النص هو ان التحكيم أو التوفيق أو الاسترضاء لا يقوم اي منها الا اذا وافق الطرفان على ذلك، وان لكل من الطرفين الحق من دون قيد أو شرط في ان يرفض هذا الاجراء. وهذا في الواقع ما فعلته اسرائيل حتى الآن إذ رفضت أية مرجعية لحل الخلافات من دون ان تعطي اي سبب لذلك سوى ان الخلافات لا تحتاج الى التحكيم ووجه الحق فيها واضح، وهو ان اسرائيل على حق... اتفاقية مثل اعلان المبادئ لا مثيل لها في المحيط الدولي الا الاتفاقيات المعقودة بين المنتصر والقوي والمستبد من جهة والمقهور والضعيف والاعزل من جهة اخرى، أو الاتفاقيات بين البصير والاعمى. وفي كتاب باللغة الانكليزية للأخ الاستاذ محمود عباس أبو مازن كبير المفاوضين الفلسطينيين في اتفاقية اعلان المبادئ بعنوان "من خلال القنوات السرية" نشرته مؤسسة غارنيت عام 1995 نجد تفسيراً لما حصل في هذه المناسبة ص 162 و179، اذ يقول: "... يتوجب عليّ ان أقرّ بأنه خلال مفاوضات أوسلو لم نراجع النص مع مستشار قانوني خوفاً من ان ينكشف الأمر. ولذلك اضطررنا للاعتماد على خبرتنا وحدنا ومعرفتنا بالنصوص. وحاولت ان استعمل بقايا الخبرة القانونية التي حصلت عليها عندما درست الحقوق في جامعة دمشق، ولكنني لم اتمكن من ان أجد في ذلك ما يريح البال. وأقول مع ذلك ان وثائق اعلان المبادئ قد تمت مراجعتها من قبل مستشارنا القانوني طاهر شاش الذي ارسلناه الى أوسلو لهذه الغاية قبيل التوقيع عليها بالاحرف الاولى في 20 آب اغسطس 1993... وصل طاهر شاش الى أوسلو الساعة الخامسة يوم الخميس في 19 آب اغسطس 1993 وقابله أبو العلاء وسلمه نص اعلان المبادئ وطلب منه ان يطالعه ويبدي رأيه، وقام شاش بدراسته بالتفصيل وبعد ساعات قليلة اخبر أبو العلاء بأن النص جيد ولا نقائص فيه. ثم عاد الى القاهرة...". السؤال الآن: هل يمكن عمل شيء لسد الثغرات وتقويم الاعوجاج في اعلان المبادئ؟