"نحن من سيحدد مدى الانسحابات المقبلة في ضوء معاييرنا الامنية الخاصة ومن دون التفاوض في شأنها مع احد". كان هذا بعض ما اعلنه بنيامين نتانياهو بعد التوقيع على "اتفاق الخليل" في 16/1/1997. واستند نتانياهو، لإعلان هذا التصريح آنذاك، على عنصرين ضامنين: ان اتفاق الخليل نفسه الذي تحدث لماماً عن الانسحابات المقبلة لم يحدد عمق هذه الانسحابات اللاحقة ولا اماكنها ولا مسافاتها" وان الاتفاق كان مسبوقاً برسالة اميركية وجهها وزير الخارجية الى اسرائيل وفيها: "ان اعادة الانتشار الاسرائيلي العسكري في الضفة الغربية تُعدّ من مسؤولية اسرائيل". وعلى رغم ان اتفاق الخليل كان قد اكسب منظمة التحرير الفلسطينية اعترافاً "ليكودياً" بها لأنه الاتفاق الاول الموقّع مع ليكود، الا انه اوضح كثيراً من النقاط التي كانت لا تزال مموهة في السياسة الاسرائيلية ومنها: - ان كل الاتفاقات التي ستلي اتفاق الخليل ستتحدث عن "اعادة انتشار" وليس عن "انسحابات". والفرق واضح بين الحالتين بقدر ما تمسكت اسرائيل نفسها بعبارة "اعادة انتشار في مدينة الخليل وليس انسحاباً منها"، وبقدر ما ستتمسك بالعبارة ذاتها في اماكن وأوقات اخرى. - ان معايير "الامن الاسرائيلي" خاضعة لتقدير اسرائيل وفي التوقيت الذي تراه هي مناسباً ومن الاماكن التي تقررها من دون سواها. - ان اسرائيل التي تقبل باستئناف المفاوضات او ببداية المفاوضات النهائية تضع لإطارها اربعة خطوط حمر بارزة ومعلنة: - ان لا تفاوض على القدس الموحدة والعاصمة الابدية لإسرائيل. - ان لا انسحابات كبيرة ولا حتى اعادة انتشار واسعة قبل المفاوضات النهائية. - وان لا مقومات اساسية لسيادة الكيان الفلسطيني الذاتي. - وان لا وقف ولا تعليق لسياسة الاستيطان الاسرائيلية في الضفة والقطاع. والواقع ان هذا الوضع الاسرائيلي المعلن منذ اكثر من سنة تقريباً لم يتغير بشكل اساسي. ولا تغير التحرك الفلسطيني الرسمي الذي سعى، منذ اكثر من سنة ايضاً، الى اختراق هذين العنصرين الضامنين من دون جدوى والى التغاضي عن الخطوط الحمر الاسرائيلية من دون اي تقدم. وبذلك تواصل الارباك الفلسطيني القانوني والسياسي بآن معاً. وبناء لما تقدم لم يكن منتظراً ان تقوم الادارة الاميركية بأي مسعى ضاغط على نتانياهو حتى من دون ان تثار في وجه الرئيس الاميركي اي مواضيع محرجة ولا ان تُرفع بوجهه اي فضائح اخلاقية متراكمة او مستجدة في توقيت مرافق لمحادثات واشنطن الاخيرة. والسؤال الذي يمكن ان يطالع المراقب اليوم يتناول اي منفذ يمكن ان يجتازه الفلسطينيون لتعديل موقفهم: التهديد باستقالة تترك وراءها الفوضى التي قد تتلقفها اليد الامنية الاسرائيلية القمعية وتعيد كل الامور الى نقطة الصفر؟ او التهديد بإحياء انتفاضة لا تتسنى لها ظروف الدعم الاولى التي توفرت في اواخر الثمانينات فضلاً عن كونها رافضة اصلاً لأسلوب التفاوض وللمفاوض؟ او انتظار المزيد من ضغط العاجز الاميركي اصلاً قبل التورط بالفضائح الاخلاقية الاخيرة؟ او انتظار الضغط الاوروبي الذي سارعت اسرائيل الى رفضه لأنه اعلن قبوله بالدولة الفلسطينية سلفاً؟ او تفعيل الجبهة العربية التي لم يكن لها يوماً اي دور فاعل؟... انه المأزق الذي يؤمن للجانب الاسرائيلي فرصته الذهبية: الوقت اللازم لاستكمال بناء المستوطنات. الواقع ان اتفاق أوسلو للعام 1993 وقع في محظور التفسيرات المتباينة التي وقع فيها القرار 242 للعام 1967. فمن المعروف ان "ال" التعريف كانت ولا تزال مثار جدل طويل بين الجانبين العربي والاسرائيلي. فالقرار 242 نص على الانسحاب الاسرائيلي من "أراضٍ" وليس من "الاراضي التي" "احتُلّت في النزاع الاخير". ولهذا تشبّث الاسرائيليون بالقول ان الانسحاب لا ينطبق على كل الاراضي. كذلك فإن اتفاق أوسلو اورد في الفقرة الثالثة من المادة 13 انه "سيتم تنفيذ تدريجي للمزيد من اعادة الانتشار في مواقع محددة بالتناسب مع تولّي الشرطة الفلسطينية النظام العام والامن الداخلي...". ومن مراجعة هذه الفقرة يبدو ان كلمة "المزيد من اعادة الانتشار لا تحدد النسبة المئوية المطلوبة من حجم الانسحاب ولا الامكنة الجغرافية التي يفترض الانسحاب منها لأنها "مواقع محددة". فهي ليست "المواقع" في الضفة والقطاع، ولا هي محددة في أي حال، على ان يترك تحديدها الى مفاوضات الوضع النهائي. ثم ان "اعادة الانتشار" لا تعني "الانسحاب" لا من حيث الحجم ولا الحالة ولا مستقبل المناطق التي تخضع لإعادة الانتشار. ولعل النص الذي تقدم ذكره شجع الجانب الاسرائيلي ايضاً على افتراض فكرة "التبادلية" بل فرضها. وهذا ما عبّرت عنه وزيرة الخارجية الاميركية مادلين أولبرايت نفسها عندما اقترحت في 23/1/1998 "ان اسرائيل تنفذ جزءاً من عملية اعادة الانتشار وفي المقابل يقوم الفلسطينيون بمزيد من الخطوات الامنية". وعلى رغم الثغرات القانونية الملاحَظة في المادة 13 كما تقدم، وعلى رغم المساعي الاسرائيلية لاصطياد العبارات العامة وملء الفراغات المناسبة لها، على رغم ذلك فإن اسرائيل، وكذلك الولاياتالمتحدة فسّرتا عبارة "تولي الشرطة الفلسطينية... إلخ" تفسيراً ينحرف عن مفهوم سيادة السلطة الفلسطينية على إقليمها الى مهمة محصورة وغير مرتبطة بالاقليم وهي: "القضاء على الارهاب الفلسطيني" كما تعرّفه الحكومة الاسرائيلية، وعدم مسّ المستوطنين والمستوطنات والعناصر والنشاطات اليهودية الاخرى. فالمسألة، اذاً، تكمن في مقتربين اثنين: ماذا يشمل الارهاب وما هو الدور الامني المطلوب من الشرطة الفلسطينية حياله؟ وهل في هذا الدور يكتمل مفهوم "تولي الشرطة الفلسطينية مسؤولية النظام العام والامن الداخلي"؟... أ - كان الجانبان الفلسطيني والاسرائيلي اعلنا في 18/12/1997 اتفاقهما على مفهوم التعاون الامني، وفيه: "ان يقوم الجانبان بالتعامل بفاعلية مع اعمال العنف والارهاب سواء اتت من فلسطينيين او اسرائيليين". الا ان السؤال الذي بقي مطروحاً: هل يُسمح للشرطة الفلسطينية بالتعامل مع الارهاب الاسرائيلي المتطرف؟ وهل عبارة "النظام العام" تنطبق على وضع المستوطنات والمستوطنين؟ واذا كان الجواب معروفاً سلفاً لأن الاتفاق نفسه اعطى اسرائيل "مسؤولية عامة عن الاسرائيليين والحدود"، فمَن الذي يقرر مدى الضبط الاسرائيلي لأعمال الارهاب والعنف الاسرائيليين؟... ب - مع ان اتفاق أوسلو لم يذكر صراحة الحق في تقرير المصير للشعب الفلسطيني، فإن ذلك لا يعني انكار هذا الحق عنهم وذلك لأكثر من سبب: - ان الحق في تقرير المصير اصبح الآن من "القواعد الآمرة" في القانون الدولي. فهو لا يستدعي اتفاقاً تعاقدياً للاعتراف به، وانما يفرض القانون الدولي وجوب ممارسته من دون اي عائق او معرقل. حتى ان المادة 53 من قانون المعاهدات الدولية للعام 1969 تعتبر ان كل اتفاق دولي، ثنائي او متعدد الاطراف، يعتبر باطلاً اذا انكر الحق في تقرير المصير، كقاعدة آمرة، او تنكّر له. - هذا فضلاً عن ورود عبارات في اتفاق أوسلو والاتفاقات التنفيذية الملحقة به تشير الى "الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومطالبه العادلة". ويُفهم منها ان ممارسة الحق في تقرير المصير قد يكون من ضمن هذه الحقوق والمطالب. - ان الاراضي الفلسطينية التي احتُلت في العام 1967 مصنّفة من جانب مجلس الامن، وبقرارات متكررة كثيرة، على انها "اراض محتلة". وبالتالي فهي خاضعة لاتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 والقاضية بحماية السكان المدنيين الواقعين تحت الاحتلال. ومن المعروف ان اسرائيل طرف موقع على هذه الاتفاقية منذ العام 1951 وهي بالتالي ملزمة بتطبيق جميع احكامها خصوصاً في ما يعود الى حماية هؤلاء السكان في اشخاصهم وعائلاتهم وأملاكهم... الخ، وذلك تحت طائلة الجزاء المناسب. اما على الصعيد السياسي فإن ما يقوم به نتانياهو يهدف الى تعزيز التماسك اليميني الحاكم واكتساب المزيد من الوقت من اجل استكمال سياستيه الامنية الضاغطة والاستيطانية الناشطة. ولا يبقى امام السلطة الفلسطينية، حيال ذلك، الا التبصر بمفاصل اربعة يمكن الاستناد اليها لتطويق السياسة الليكودية الراهنة، وهي: - ان معادلة نتانياهو التي يسعى الى تسويقها اسرائيلياً تقوم على ضمان "السلام القائم على الأمن". وإذا كان السلام متعثراً مع هذا الرجل بسبب مسلكه، فإن المطلوب هزّ هذه المعادلة لكي تسقط صدقية نتانياهو "الامنية" ايضاً. - ان كل بنود السياسة الاسرائيلية الراهنة تخالف احكام القانون الدولي وان كانت تسعى احياناً الى تفسير الاتفاقات الثنائية بما يتلاءم مع مصلحتها. لذلك بات من الملّح الآن ان تركّز السلطة الفلسطينية على المرجعية القانونية الدولية في نشاطاتها الديبلوماسية وتبرز ما سبق لرئيس المجلس الوزاري الاوروبي ان اعلنه في بروكسيل في 29/12/1997 من ان "تصريحات نتانياهو تناقض القانون الدولي ولا تخدم هدف السلام الدائم والشامل" في المنطقة. على ان يصار الى تعميم ذلك على الرأي العام الدولي. - ان ثمة تياراً اسرائيلياً متنامياً في اسرائيل يعتبر ان سياسة نتانياهو تتسبب ليس في انهيار عملية السلام فقط وانما في المزيد من المخاطر على سلامة دولة اسرائيل ايضاً. وينمو هذا التيار فقط اذا تكثفت الجهود العربية في مقاطعة نتانياهو من خلال تنفيذ مقررات قمة القاهرة في حزيران يونيو 1996، وليس في تعويمه بعد او مع كل ازمة داخلية يمر فيها. - ان ثمة تياراً يهودياً متنامياً في الولاياتالمتحدة يؤكد، وفقاً لاستطلاع "معاريف" في 29/9/1997: ان اكثر من اربعة اخماس اليهود الاميركيين يؤيدون فكرة قيام دولة فلسطينية، واكثر من ثلاثة ارباعهم يساندون ممارسة ضغوط اميركية على حكومة نتانياهو. وهذا ما يقتضي توظيفه... اما اذا اغفلت السلطة الفلسطينية هذه المفاصل الاربعة وتحوّلت عنها الى نشاطات عربية او دولية مغايرة فإن الاخطاء تتكرر والاخطاء تتفاقم من دون رابط ولا ضابط.