للمرة الثانية، وخلال اقل من شهر، عادت الاتصالات بين الادارة الاميركية وبعض القوى والشخصيات العراقية المعارضة، الامر الذي يشير الى احتمالات حصول انعطاف شديد وسريع في الوضع العراقي الراهن. وتأتي هذه الاتصالات في جو ملبّد بالغيوم والاستنفارات بين بغدادوواشنطن اذ بدأت تتصاعد حدة التصريحات بين الطرفين لتأخذ شكلاً خطيراً وصل الى مستوى اعلان الولاياتالمتحدة وبشكل علني وواضح نيتها على تغيير النظام العراقي واستبداله بنظام جديد يحترم المواثيق والتعهدات ويصون حقوق الانسان. ودخل على خط المنافسة الجانب الايراني، حين اعلن السيد باقر الحكيم من مقره في طهران بأن تغيير الوضع الداخلي في العراق شأن عراقي خاص، لكنه نظم في الوقت نفسه اجتماعاً موسعاً لقادة العمل العسكري الاسلامي المعارض في احد المواقع المجهولة داخل العراق، الامر الذي فسّر من قبل بعض المتابعين للقضية العراقية كونه رسالة سريعة وموجهة الى واشنطن بأن القوة العسكرية المنظمة المتمثلة ب "فيلق بدر" قادرة على حسم الامر في اي وقت تحين فيه عملية الانقضاض على النظام الحاكم في بغداد. لكن ردود فعل القيادة الايرانية العلنية تجاه الموقف الاميركي لا تتوافق مع التحرك الاخير الذي قام به محمد باقر الحكيم. لذلك يعتقد بعض المراقبين بأن تسرع الحكم في اعلان نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة العراقية الاسلامية في البيان الصادر عن الاجتماع، انما سيؤثر سلباً على الموقف الاميركي الذي يتحسس من التأثير الايراني، وهناك رأي آخر يقول ان هذا الاعلان هو محاولة لمصادرة قيادة الدولة العراقية من القوى والاحزاب الاخرى قبل اسقاط النظام القائم. لكن امام هذا التطور السريع فان التلويح بقوة "فيلق بدر" وهو الجناح العسكري في المجلس الاسلامي الاعلى، اثار حفيظة النظام العراقي الذي بدأ يتحدث عن احتمالات قيام قوات "مجاهدي خلق" بمناورات عسكرية، وهذا في واقع الحال رد سريع على تحركات "فيلق بدر"، وتشكل هذا الفيلق في منتصف الثمانيات من افراد ومنتسبي الجيش العراقي الأسرى في ايران، الذين فضلوا الانخراط بهذا الجيش بدلاً من البقاء في معسكرات الأسر تحت رحمة الحراس الايرانيين. وسمي في بداية تشكيله ب "قوات بدر" ثم اختصر الى "فيلق بدر"، كما ضم ايضاً البعض القليل من الهاربين الى ايران، ويبلغ عدد افراده ومنتسبيه في الوقت الحاضر زهاء اربعة آلاف مقاتل، يتوزعون على عدة معسكرات ومواقع متاخمة للحدود الايرانية من ناحية جنوبالعراق خصوصاً القريبة الى البصرة والناصرية والعمارة، وهذه المناطق رعوية او مليئة بالاحراش والبساتين والاهوار "البطائح" وهي معزولة عن السلطة المركزية منذ فترة بعيدة. ويبدو ان نقطة التقاطع في العلاقة بين بغدادوطهران، انما تتمركز في الموقف من "فيلق بدر" و"مجاهدي خلق"، فايران تطالب النظام العراقي بتصفية وجود منظمة "مجاهدي خلق" قبل الشروع بعودة العلاقات الطبيعية، بينما تطالب بغداد الجانب الايراني بتصفية وجود "فيلق بدر"، ليتسنى بحث الامور الاخرى العالقة، والعودة الى طاولة المفاوضات. وربما شكل وجود "مجاهدي خلق" في العراق خطراً حقيقياً على مستقبل الوضع في ايران، بحكم التناغم الشعبي مع هذه المنظمة التي بدأت في الآونة الاخيرة تتحرك في اوساط واسعة داخل ايران. ومن المفيد جداً القاء بعض الضوء على تطور هذه المنظمة تاريخياً، قبل الكشف عن مواقعها الحالية في العمق العراقي. انفصلت مجموعة من الشباب عام 1963 من منظمة "نهزة آزادي"، اي "نهضة الحرية" التي كان يقودها المهندس مهدي بزركان، وشكلوا "حركة مجاهدي خلق" اي "مجاهدي الشعب"، واختاروا اسلوب الكفاح المسلح كطريق وحيد لاسقاط الشاه، وكانت هذه المنظمة بقيادة المهندس حنيف نجاد وبديع زادكان وآخرين. وعندما بدأ الكفاح المسلح، اعلنت المنظمة عن نفسها باسم "مجاهدي خلق" تمييزاً لها عن منظمة "فدائيي خلق" الماركسية التي انشقت هي الاخرى عن حزب تودة الشيوعي. وانطلقت المنظمتين في وقت واحد تقريباً. ويذكر ان "مجاهدي خلق" كانت في ذلك الحين تشكل تياراً اسلامياً في مقابل "فدائيي خلق" التي كانت تشكل تياراً ماركسياً. وفي خضم اعلان الكفاح المسلح، اغتيل عدد من المستشارين الاميركيين، وشُن هجوم مسلح على المكتب التجاري الاسرائيلي في طهران، وفي مطلع السبعينات تم القاء القبض على مجموعة مؤلفة من 120 شخصاً كانوا عبارة عن كوادر قيادية لهذه المنظمة، بما فيهم بديع زادكان وحنيف نجاد، وتم اعدامهم. وادى اعدام هؤلاء وغيرهم الى حدوث خلاف تنظيمي وايديولوجي داخل المنظمة فانقطعت العديد من الخلايا عن بعضها بعضاً، الامر الذي سهّل قيام انشقاق ايديولوجي داخل المنظة، اذ خرج تيار ماركسي بقيادة وحيد افراخته، فاعلن كما ا دعى عن تحوله من المثالية الاسلامية الى الماركسية، فأسس منظمة "الكفاح من اجل الطبقة العاملة" سازمان بيكار داراه آزادي تبقة كاركاري. وحاول ان يعمم هذا الاعلان على كل اعضاء ومؤازري المنظمة، في حين كانت هناك خلايا لا تزال ملتزمة بالايديولوجية الاسلامية للمنظمة، اي "مجاهدي خلق". كانت الكوادر في خارج السجن تخضع لقيادة شريف واقفي، وكانت تواصل عملها، لكن جماعة وحيد افراخته قامت بتصفية شريف واقفي في منطقة "قلعة موركي" في طهران، وهذا التحول كان نقطة انفصال منظمة "مجاهدي خلق" بشكل عام عن التيار الاسلامي العام الذي كان يقوده آية الله الخميني ورجال الدين، حيث ظهرت استقلالية فكرية وايديولوجية عن تيار الخميني. وكانت منظمة "مجاهدي خلق" لم تشرع بعد في تصعيد الموقف ضد التيار الديني، بينما قام التيار الديني بقيادة الخميني بالوقوف وبشكل حاسم ضد "مجاهدي خلق" متهماً اياها بأنها حاضنة للايديولوجية الماركسية. واستمرت المواجهة التي لم تتحول الى صدام عنيف حتى قيام الثورة الاسلامية، اي حتى استلام الخميني مقاليد السلطة. وكان مسعود رجوي ضمن المجموعة التي القي القبض عليها وعددها 120 شخصاً، وحُكم عليه بالاعدام، بيد ان شقيقه كان مقرّباً الى الشاه، فتدخل للتوسط لانقاذ رقبة مسعود، فتم تخفيف الحكم من الاعدام الى السجن المؤبد، واخذ في فترة لاحقة يدير قيادة "مجاهدي خلق" من وراء القضبان. وبعد الثورة اطلق سراحه ودخل في تحالفات مع تنظيمات اسلامية ووطنية مثل "حركة المسلمين المناضلين" و"منظمة الشورى" و"منظمة الحركة"، وغيرها، ثم تحالف مع الرئيس الهارب ابو الحسن بني صدر. واستمر صراعه مع السلطة، وتصاعد حتى هروب ابو الحسن ومن ثم هروبه الى فرنسا. بعد ذلك انتقل من باريس الى بغداد، وبانتقاله بدأ تشكيل القوى العسكرية ل "مجاهدي خلق" في داخل العراق منذ بداية الحرب العراقية - الايرانية. اما زوجته التي كانت زوجة احد رفاقه قبل ان يطلّقها زوجها السابق ويتزوجها مسعود، فقد رافقت مسيرته الاخيرة هذه وهي الآن تعيش في العراق وتصنف حسب تصنيفات المنظمة كونها المرشحة الوحيدة لرئاسة الجمهورية الايرانية اذا ما تم اسقاط النظام الحالي من قبل المنظمة. علاقة "مجاهدي خلق" بالنظام الامني العراقي بدأت تتشكل بصورتها الجديدة منذ انتفاضة آذار مارس 1991، والآن هي محصورة في ثلاثة خطوط داخل الدولة العراقية، خط جهاز المخابرات وخط آخر هو جهاز الامن الخاص والخط الثالث اصبح تحت رحمة عدي نفسه. فكل ما يتعلق بنشاطات المنظمة في المناطق المحيطة ببغداد يشرف عليها عدي بصورة مباشرة وبشكل شخصي عبر متابعة لجنة خاصة من كبار ضباط الاركان، وهم علاء الدين مكي خماسي ومكي حمودات وعبدالكريم العتباوي وضياء الناصري. وكل هؤلاء من ذوي الرتب العالية من الضباط العراقيين الذين اصبحوا بمقام هيئة تنسيق لتأسيس شيء اسمه "المرتكزات الامنية في خارطة الانتشار حول العاصمة بغداد". وباشراف هؤلاء تم بناء المعسكرات الجديدة ل "مجاهدي خلق" في منطقة الفلوجة ومنطقة الراشدية ومنطقة ديالي - طريق بعقوبة القديم ومنطقة العزيزية والمنطقة الواقعة ما بين محافظة بابل ومحافظة واسط على طريق اجبلة. هذه المناطق في الخريطة نجدها تحيط بالعاصمة بغداد، وباستثناء ضلع واحد، هو الضلع المؤدي الى مدينة تكريت والموصل، فانه خاضع وبشكل تام لاشراف قوات الطوارئ في الحرس الجمهوري، وعبر المنفذين، وهما طريق شاطئ الناجي - الطارمية، وطريق الممر الدولي المؤدي الى مدينة الموصل. واغلب المهمات التي تتولاها منظمة "مجاهدي خلق" حالياً هي حماية العاصمة بغداد، وبأوامر من لجنة التنسيق الخاصة هذه بنى موضع قيادة جديد ما بين منطقة الرضوانية واليوسفية، والتي هي عبارة عن مزارع كثيرة تعود ملكيتها لعدي، وتم تنفيذ المشروع في هذا الموقع وانجز قبل اكثر من عام تقريباً، وهو مزود باجهزة ومعدات عسكرية متطورة، الغرض منها تأمين توجيه القطعات اذا ما اقتضت الضرورة، وبعد تقسيم العاصمة الى مناطق عمل طولية داخل هذه الدائرة النسيجية. هناك مهمات يومية في تشكيلات منظمة "مجاهدي خلق" تبدأ مع الضياء الاخير للشمس، وفي الغالب تكون مناطق انتشارها على مقتربات من الوحدات العسكرية العراقية المهمة في شمال وجنوب وشرق وجزء من غرب العاصمة، وتنتهي هذه المهمات الامنية حتى حلول الضياء الاول من اليوم التالي. وقد اعطيت صلاحيات واسعة لافراد الدوريات التي تشكلت بعد ان تعرض عدي لمحاولة الاغتيال، وباشراف هؤلاء الضباط المؤلفين للجنة، وتم اختيار مجموعة من الضباط من بين تشكيلات الحرس الجمهوري لتأمين تنفيذ هذه المهمات. اخذ النظام العراقي يتحكم في تحريك منظمة "مجاهدي خلق" كعامل ضغط على ايران متى ما ظهرت بوادر تصعيد في المواقف السياسية والعسكرية، بما في ذلك تحركات "فيلق بدر" او المجموعات الميدانية في الجنوب او اي تحرك تقوم به القوى الاسلامية الموجودة في مقراتها في طهران. لذلك فان موضوع "فيلق بدر" ربما يختلف عن موضوع "مجاهدي خلق" في المنطلقات السياسية الوطنية، فهذا الفيلق الذي هو الجناح العسكري للمجلس الاسلامي الاعلى يمثل ظاهرة عراقية معارضة لا تنفصم عن مجموع الجسم العراقي المعارض، وله اهداف وطنية تختلف عن اهداف "مجاهدي خلق" حتى وان كان يوجد نفس ضيق في بعض قياداته، الا انه مع كل ذلك يتألف من فئات عراقية فقيرة ومعدمة كالجنود والفلاحين الذين فقدوا كل شيء سوى تطلعهم للعودة الى العراق في ظل نظام جديد يضمن لهم حريتهم ويصون كرامتهم. * كاتب وصحافي عراقي مقيم في لندن.