تبدد أمل الثوار في هيئة الأركان بآمال الضربة العسكرية الأمريكية ضد مواقع للنظام، وبدت لغة الاعتماد على الذات أكثر حضورا، في ظل التخاذل الدولي والتركيز على انتزاع السلاح الكيماوي من نظام الأسد. ويوما بعد يوم تترسخ لدى الأركان -الهيئة الرئيسة التي تحظى بالاعتراف الدولي- أن إسقاط الأسد لن يكون بانتظار الوعود، إنما بالقوة وعزيمة الثوار.. أما التوازنات الدولية ستذهب بسوريا إلى الجحيم. هذا ما تراه هيئة الأركان، التي قالت وبكل وضوح «لقد أصبحت الضربة وراء ظهورنا، وما أمامنا سوى توحيد جهودنا للإطاحة بالنظام الأسدي.. إنه مسلسل جديد من الهروب من المسؤولية». وقبل أن نسرد تفاصيل اليوم الذي أمضته «عكاظ» في هيئة الأركان في نهاية الرحلة إلى الأراضي المحررة في حلب وإدلب وريفيهما، لا بد أن نتعرف إلى تلك المؤسسة العسكرية الوليد من رحم الثورة. تعمل هيئة الأركان كخلية نحل في مبنى صغير وجديد، كانت الهيئة انتقلت إليه بعد أن قرر مالك البناء السابق أن يسكن في بنائه الذي كانت الأركان تتخذه مقرا.. يتألف المبنى من ثلاثة طوابق فقط تشكل مرجعية للكثير من كتائب الثورة المنضوية تحت لواء الأركان، فالكل هنا في هذا المبنى يتداول التزويد بالسلاح للجبهات؛ الأوامر بالكر والفر، تغيير المواقع، التنسيق ورسم الخطط العسكرية، مكتب الاستخبارات وجمع المعلومات، التنصت على مكالمات جيش النظام، معاملات الإجازات، والكثير من البيروقراطية فوق متطلبات القتال ودعم الجبهات.. ليس هناك وقت للتقصير فالوقت هنا حقا كالسيف.. «إنها الحرب».. تلك المقولة التي طالما سمعتها على لسان القادة في الأركان ومن بعدهم المقاتلون.. ولك أن تتخيل حجم الضغوطات العملية التي تؤرق القياديين. طلبت من الضابط المسؤول أن أتحرك بحرية في المكاتب، خصوصا مكتب إدارة الأزمات (بوصلة الأركان)، فجاءني الرد بالقبول الفوري. في مكتب إدارة الأزمات، تعيش الثورة السورية الميدانية بكل تفاصيلها، بعيدا عن تشويش وسائل الإعلام، بل إنك تجد أن الإعلام في وادٍ والثورة في وادٍ آخر.. حتى الثوار في هيئة الأركان لا وقت لديهم لمتابعة وسائل الإعلام. محاولات التنظيم والمأسسة بدا منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها أحد المقاتلين على ضابط في مكتب إدارة العمليات، أن الهدف الذي تتطلع إليه الأركان هو مأسسة العمل العسكري، وإنشاء نظام في بحر الفوضى، بحيث تكون المركزية في القرار للأركان. طلب المقاتل إذنا بتحريك بعض المعدات العسكرية التي استولى عليها الثوار من النظام، نحو منطقة جبل الزاوية لمؤازرة إحدى الكتائب التابعة للجيش الحر، في القتال ضد قوات النظام، فطلب الضابط من المقاتل أن يقدم طلبا خطيا.. فتعالى صوت المقاتل المتحمس، وهل هذا هو وقت الطلبات الخطية. فأجاب الضابط: إنه النظام والانضباط.. لن ننتصر بالفوضى والقرارات الارتجالية.. وكرر الضابط أكثر من مرة.. «النظام قبل الشجاعة والقتال». كان ذلك الحوار مثالا حقيقيا، على واقع الثورة السورية، إنها الحاجة إلى النظام والانضباط مع الشجاعة والبسالة في القتال لإسقاط النظام، لكن للأسف حتى هذه اللحظة لم يتحد طرفا المعادلة. كل أمر بصرف ذخيرة أو سلاح، أو حركة لأي من التشكيلات المقاتلة أو معداتها، توثقه إدارة العمليات بالورقة والقلم. والسبب في ذلك، يقول المقدم في غرفة العمليات، لن نتمكن من مواصلة المعركة مع النظام بهذه الفوضى، لقد اخترق النظام الثورة بإثارة الفوضى، وفي بعض الأحيان بدس بعض العملاء والمأجورين بين صفوف الثوار لبث الفوضى. كل من يدخل إلى مكتب إدارة الأزمات، يصرخ بصوت عال أين الذخيرة؟، لم نعد نريد سلاحا نوعيا.. نريد ذخيرة فقط.. جنود النظام يتراجعون أمام سلاحنا البسيط. لقد انخفض السقف -حقيقة- في الثورة السورية، كانت البداية مطالبات بوقف الطيران والحظر الجوي، ومن ثم انخفضت إلى السلاح النوعي، إلى أن انتهت الحال إلى الذخيرة فقط.. ومع ذلك، يقسم أحد المقاتلين على جبهة الساحل، أن الثوار يرابطون على الجبهة بأسلحة لا تظاهي أسلحة النظام بمقدار 10 في المئة، إلا أنهم استطاعوا إرباك النظام في هذه الجبهة. ويضيف، أن النظام حشد أضعاف ما حشد في حلب في جبهة الساحل، من مدافع وهاون وطيران وبراميل متفجرة، وحول المناطق إلى متاريس جبلية، خوفا من تقدم الحر بأسلحته البسيطة. اللحية ليست تطرفا تأسست هيئة الأركان على أن تكون البيت العسكري الذي يسع كل السوريين الثائرين من مدنيين وعسكريين، لكنها كانت ولا تزال تتخذ موقفا حازما من الكتائب المتطرفة ذات الأهداف التكفيرية والتخريبية.. لكن عندما تدخل إلى الأركان ثمة أسئلة تواجهك تتعلق بمسألة اللحية والمظهر الخارجي للثوار، في معظم الأحيان تحاول لجم مثل هذه الأسئلة، لكنها جد ضرورية إذ إنها توحي لك بأمور أخرى. من هذه الأسئلة ما يمكن تسميته سؤال (اللحية)، أو سؤال المظهر العسكري.. فأنت أمام أفراد غير متجانسين في الشكل الخارجي -وهو من مظاهر الانضباطية العسكرية- لا يجمعهم زي عسكري موحد ولا ملامح شكلية توحي بالحالة العسكرية، بالأخص مسألة اللحية التي كانت من المحرمات في جيش النظام السوري. سألت أحد مديري مكتب اللواء المقدم (أبو ياسين)، عن بعض الأفراد الملتحين وغير المرتدين للزي العسكري؟، ومن هم؟.. هل هم من كتائب خارج هيئة الأركان أو تكفيريون.. فأجاب متقبلا للتساؤل.. أنت في هيئة الأركان.. «بيت الجد السوري الذي يسع الجميع». وأضاف: صحيح أن لمقاتلي الأركان الزي الرمادي المائل إلى اللون البني، إلا أن المسألة هنا اختيارية، والسبب في ذلك أن هناك الكثير من المقاتلين المدنيين بين صفوف الأركان وهم انضموا مؤخرا، لم يعتادوا على ارتداء هذا الزي، لذا نترك لهم خيار الزي والمظهر الخارجي. أما موضوع اللحية، فقال متى كانت اللحية تتعارض مع القوانين العسكرية، إنها قانون نظام الأسد فقط؛ فنحن مسلمون واللحية من السنن التي حض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكل تأكيد لا تعكس التطرف، إنها صورة نمطية قديمة، أثبت المقاتلون عدم صحتها.. مستعرضا لي بعض الأشخاص الملتحين في الأركان. متابعا القول: «صحيح، إن (الأركان) تسعى للتنظيم وخلق مؤسسة عسكرية منضبطة، إلا أن الشكليات ليست هدفا.. فالكل هنا يتعامل بروح الثورة لا بروح الرتبة العسكرية والسلطة.. لقد تركنا السلطة وراء ظهورنا. تشييع شهيد خلال الحديث مع أحد القياديين البارزين في الأركان، وصلت جثة الشهيد محمد الحاكم، الذي استشهد على إحدى الجبهات، هذه اللحظة كنت أنتظرها منذ وصولي.. كنت أتصيد ملامح الوجوه لحظة سماع شهادة رفيق السلاح، وكان الكل يقول: «نيالوا»؛ أي «هنيئا له».. إنه السباق إلى المجد والتضحية من أجل الوطن. ويتابعون القول: قتلوا زهرة شبابنا، قاتل حتى نفذت الذخيرة.. حقا تستمع إلى قصص أسطورية في الشجاعة والبسالة. على الفور، انطلقت سيارات الأركان مع أعلى رتبة في المبنى إلى أحد المعسكرات التابعة لهيئة الأركان من أجل سماع شهادات المرافقين حسن الشهاد.. فكل قصة توثق كما هي حتى تكون في ما بعد شهادة على بطولات الثوار وفي ذات الوقت إجرام النظام. حملت «عكاظ» مع الثوار الجثة، ورأت كيف كان جسد الشهيد مخترقا بعدد غير منتهٍ من الرصاص، كيف مزجت نيران النظام عظامه بلحمه والدماء المتخثرة على جسد تغطي أبشع مشاهد العنف والإجرام الأسدي.. وأخيرا قرروا بعد الاتصال بالأهل أن تذهب الجثة إليهم للوداع الأخير قبل مواراة الثرى. جولة في المطابخ يقال إن «الجيوش تسير على بطونها».. وأرادت «عكاظ» أن تعرف كيف يسير الثوار، فطلبت زيارة المطبخ لتعيش في التفاصيل الدقيقة مع الثوار.. وبالفعل هممت بالخروج إلى المطبخ، وفاجأني أحدهم أن المطبخ في قمة التلال ويحتاج إلى 20 دقيقة في حالة استقللنا سيارة. توجهنا في وقت الاستعداد لوجبة الغداء إلى المطبخ، وتوقعت أن أرى مطبخا مترامي الأطراف وأدوات متطورة، إلا أنني صدمت من البساطة والبدائية في آلية الطبخ والتحضير.. ولك أن تتخيل أن مطبخ هيئة الأركان هو غرفة واحدة فقط، تحضر كل الوجبات من الصباح حتى الليل. وكان الرز أو (البرغل) هو سيد المطبخ، والعنصر الحاضر في كل الوجبات الأسبوعية، ويتم التحضير بأبسط الأدوات فالأواني تكاد أن تحصيها في هذه الغرفة اليتيمة.. إلا أن الثوار يستمتعون بالوجبات البسيطة؛ وهي بمثابة طبق رئاسي بعد جولات المعارك على الجبهات. أما العاملون في هذا المطبخ فهم ثلاثة أشخاص يتناوبون على خدمة الثوار. نوم الثوار إنها الحرب.. فلا مكان للنوم، ولا ساعات محددة له، وربما لا تنام، فأنت لست من يقرر ذلك، إنما المعارك، هي من يسمح لك بذلك، هكذا قال القيادي أبو عمار ل«عكاظ». من خلال متابعة كل صغيرة وكبيرة في حياة هيئة الأركان، لم أجد من ينام طوال اليوم، بل إن النعاس غالبني دون أن أرى من يأخذ قسطا من الراحة.. والمثير في الأمر أن حالة الاستيقاظ متقدة في أية لحظة، فحالة (الاستنفار الذهني والبدني)، باتت قاعدة يومية في برنامجهم اليومي، من أكبر القيادات العسكرية إلى أصغرها، باستثناء الدقائق المحدودة التي ينتهزها البعض لكسر (سلطان النوم). ويؤكد البعض في هيئة الأركان ل«عكاظ» أنه في بعض الأيام يمر يومان أو ثلاثة أو أكثر ونحن لا نعرف للنوم طريقا، خصوصا في ذروة الاشتباكات مع قوات الأسد، على اعتبار أن هيئة الأركان هي مركز صناعة القرار الثوري، وهي المكان الذي تصدر منه كل التوجيهات. ويقول مدير مكتب اللواء سليم إدريس، من الصعب أن تغفل عيوننا عما يجري في ميادين القتال، خصوصا أن الأركان تشرف على خمس جبهات، لذا نعمل على نظام التناوب بالدقائق، ونظرا لعدم كفاية العدد فإننا نكتفي في أفضل الأحوال بساعتين من النوم يوميا. مستودع أسرار الثورة لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة وكذلك التكنولوجيا، فضل كبير على الثورة السورية، فمن ال(فيسبوك) في الحراك السلمي وتنسيق المظاهرات، إلى ال(سكايب) الصديق الأكثر وفاء للثوار. فالكل يتواصل عبر الوسيلة الأكثر أمنا ال(سكايب)، فالنظام اخترق كل وسائل الاتصال، من الموبايل إلى الهاتف الأرضي وحتى ال(فيسبوك)، ولم يبق إلا ال(سكايب) الأداة الأصعب في الاختراق، ومع ذلك سجلت بعض الاختراقات من قبل النظام. لدى كل مقاتل في الجيش الحر (سكايب) خاص، أما التلفون ووسائل الاتصال الحديثة فباتت من الماضي.. وبعد هدوء المعارك، يعود المقاتلون إلى مقراتهم، يتبادلون تجارب القتال عبر ال(سكايب)، لدرجة أن المقاتلين يتندرون بالقول «لو كان ال(سكايب) عميلا للنظام لانتهت الثورة».