حتى 1979 كان جميع الباحثين والمؤرخين المتحدثين عن "حلقة كامبريدج" يقولون ان ملفاتهم لن تكتمل قبل العثور على اسم العضو الرابع في الحلقة. بعد ذلك وبعد ان تمكنوا من العثور على الاسم الرابع، راحوا يبحثون عن اسم الخامس ولكن ذلك موضوع آخر. اذ في العام المذكور، كان المطلوب معرفة من هو المثقف الجامعي زميل غي بارجس وكيم فيلبي ودونالد ماكلين، وشريكهم في جريمة الخيانة العظمى، أي العمل لصالح الاستخبارات السوفياتية. والحال ان مسألة "حلقة كامبريدج" شغلت وستظل تشغل بال الطبقة السياسية والثقافية الانكليزية انطلاقاً من اعتبارها "عاراً أحاق ببريطانيا لاسيما بنخبتها الثقافية". والفضيحة كانت قد وصلت الى ذروة اندلاعها اوائل العشرية السابعة من هذا القرن، حين كشف امر كيم فيلبي، وتمكن من الهرب من بيروت الى موسكو على متن باخرة سوفياتية ارسلت الى مياه العاصمة اللبنانية، في ذلك الحين، لهذه الغاية. المهم، ان الفضيحة وصلت الى ذروة اخرى في 1979، حين اعلن اسم رابع العصابة، فاذا به مؤرخ الفن الشهير، وحافظ كنوز الملكة الفنية السير انطوني بلنت. وحين اعلن الاسم فغر الانكليز افواههم دهشة وخفضوا نظراتهم خجلاً. كانوا يتصورون اي شيء الا ان يكون شخص له تلك المكانة وتلك المسؤوليات ضالعاً في التجسس لحساب المخابرات السوفياتية. ومع هذا، كان رد الفعل مدهشاً: لا شيء تقريباً. فالرجل له حصانته ومكانته، وبريطانيا لا يمكنها ان تعاقبه، وهو، على اي حال، يعيش اعوام حياته الاخيرة. والواقع ان انطوني بلنت، رحل بعد ذلك بأقل من اربعة اعوام، اي يوم السادس والعشرين من آذار مارس 1983. وحين رحل عادت الفضيحة لتكون مثار أحاديث الناس من جديد. انطوني بلنت الذي ولد في 1907، كان شاباً يافعاً في الثلاثينات، حين راح يدرس تاريخ الفن في كلية "ترينيتي" التابعة لجامعة كامبريدج، حيث خضع لتأثير استاذ ماركسي لتاريخ الفن هو فردريك آنتال. وهكذا بتأثير هذا الاخير، وبالاتصال مع عملاء المخابرات السوفياتية ممن تمكنوا من اجتذاب عدد من رفاق بلنت في الجامعة نفسها، وابرزهم بارجس وفيلبي وماكلين، راحت افكار بلنت الماركسية تنضج وتتركز، لكن هذا شيء وتحول صاحبنا عميلًا للمخابرات البريطانية شيء آخر تماماً. وهو ما حصل بالفعل، اذ ها نحن نراه في خلال الحرب العالمية الثانية عميلاً لقسم "م-15" التابع للمخابرات البريطانية، في الوقت الذي سيعمل فيه لصالح المخابرات السوفياتية، غير ان هذا الامر الاخير لن يُعرف هو الآخر الا في 1979. قبل ذلك، وطوال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ظل السير انطوني بلنت يعتبر واحداً من كبار المؤرخين الفنيين في بريطانيا. وكان بلنت قد أبدى اهتماماً جدياً بالفنون وتاريخها، لاسيما بفنون عصر النهضة، منذ كان في الجامعة. وخلال سنوات الثلاثين قام بجولة على العديد من البلدان لتنمية معارفه الفنية، فعاد بعدها ليضع كتابا - مرجعاً عن الرسام الفرنسي نيقولا بوسان. وبعد ذلك اصدر كتاباً عن "فن عصر النهضة الفرنسي" نشرته موسوعة "بليكات" لتاريخ الفنون، وهو اضافة الى ذلك وضع عدة مؤلفات حول فن وليام بليك وبيكاسو وفن الباروك المعماري. وكل هذه المؤلفات جعلت له مكانة اساسية بين مؤرخي الفن في بريطانيا، وهي التي قادته الى القصور الملكية حيث اضحى المسؤول الرسمي عن الكنوز العتية التي يملكها العرش البريطاني الذي منح بلنت في 1956 لقب فارس، كما منحته الحكومة الفرنسية، ودائماً بسبب ادائه الفني، وسام جوقة الشرف في 1958. لكن كل هذا التكريم كان قبل افتضاح أمره. اذ عند هذا الافتضاح تضاءلت صورة انطوني بلنت كمؤرخ للفن لتحل محلها صورته كعميل للسوفيات. وتبين ان بلنت تعرف، حين كان في جامعة كامبرديج على غي بارجس الذي نقل اليه ايمانه بالماركسية من ناحية وتبرمه بالمجتمع البريطاني واخلاقياته الجامدة من ناحية اخرى. وكان ذلك في وقت كانت الازمة الاقتصادية الاميركية قد كشفت عن هشاشة وجمود النظام الاقتصادي الرأسمالي. وهكذا اعتنق بلنت الماركسية، وكان ذلك طريقه للعمل مع السوفيات، لا سيما خلال الحرب العالمية الثانية حين قيض له ان ينخرط في العمل مع المخابرات البريطانية. مهما يكن فان عمل بلنت كعميل مزدوج انتهى تماماً في 1954، غير انه حافظ على ارتباطه باصدقائه القدامى ومنهم غي بارجس الذي كان في ذلك الحين منتمياً الى السلك الديبلوماسي البريطاني من ناحية، والى المخابرات السوفياتية من ناحية ثانية. وفي 1951، ساعد بلنت صديقيه بارجس وماكلين على الهرب، غير ان الشكوك التي حامت حوله هو شخصياً لم توصل الى كشف أمره. بعد ذلك، حين هرب كيم فيلبي بدوره بعد انفضاح أمره، سارع بلنت للاعتراف سراً، لاجهزة الامن البريطانية بكل ما فعله. لكن تلك الاجهزة سكتت عن الموضوع ل"غياب الأدلة" وظلت لبلنت مكانته مقابل اعترافه الكامل المسجل. وهذا السر ظل محفوظاً طوال 15 سنة، حتى صدر كتاب للمؤرخ بويل بعنوان "مناخ الخيانة" كشف الموضوع كله، فسارع بلنت الى الاعتراف العلني قائلاً انه أخطأ وهو شاب في اختياراته السياسية، فاكتفت الحكومة البريطانية بسحب لقب "فارس" منه وان كانت قد سمحت له بان يعيش بقية ايامه في عزلة لا يزعجه فيها احد.