الانترنت لم تغير حياتنا فقط بل تسببت باختفاء الجاسوسية بشكلها القديم.. فجواسيس من نمط جيمس بوند يعجزون اليوم عن تقديم مايمكن ل "جوجل" تقديمه.. ومخابرات اليوم لا تتمتع بوفرة المصادر التي تملكها مواقع المشاركات الشخصية (التي تبدأ دائما بكلمة wiki مثل موسوعة ويكيبيديا) أو التسريبات السياسية (مثل موقع ويكيلييكز) أو الجغرافية المتخصصة (مثل ويكيمابيا وجوجل إيرث)!! ولكن.. مع هذا.. مازالت الجاسوسية - بنمطها القديم - تتمتع بغموض جذاب وكارزما طاغية وارشيف هائل من الأسرار التي لم تكشف إلى الآن.. ولسبب ما ارتبطت الجاسوسية في ذهني بالشخصية الإنجليزية الباردة.. فبالإضافة لمتابعتي القديمة لأفلام جيمس بوند تعرفت على جهاز المخابرات البريطاني (بفرعيه M5 وM6) من خلال الكتب والروايات البوليسية الجميلة! غير أن عراقة الانجليز (الذين سبقوا الأمريكان والروس في فنون التجسس) لا تعني تمتعهم بالحصانة ضد عمليات التجسس والاختراق ذاتها.. فالمخابرات البريطانية مثلا مازالت تشعر بالحرج جراء خيانة أربعة جواسيس عملوا مع الروس ضد بلادهم.. ولم يكن عملهم هذا نتيجة خوف أو طمع بل إيماناً منهم بأن الشيوعية - في ذلك الوقت - هي السبيل الوحيد لخلاص البشرية. هؤلاء الأربعة هم: دونالد ماكلين، وجاي برجس، وأنتوني بلنت، وكيم فيلبس الذين درسوا معاً في جامعة كامبردج ووصلوا الى مناصب عليا في الحكومة البريطانية قبل أن ينقلبوا عليها (ويعرفون اليوم باسم الشياطين الأربعة). فبالإضافة إلى تجسس ماكلين على شؤون بلاده الداخلية عمل في سفارة بريطانيا في واشنطن وزود الروس بأسرار الأبحاث الأمريكية لصنع القنبلة الذرية. وحين شعر بقرب اكتشافه هرب إلى موسكو عام 1951 واستقر بها بدون أن يكشف عن الثلاثة الآخرين! أما برجس فكان أحد النافذين في وزارة الخارجية واستطاع تزويد موسكو بما لم تحلم به من أسرار عن بريطانيا ودول الكومنولث، ولحق بماكلين في روسيا بعد عامين. أما بلنت فعمل مساعداً لرئيس الشفرات الأجنبية في المخابرات البريطانية ولم ينس يوما تزويد موسكو بأحدث الشفرات المستخدمة.. حتى فضحه أحد الصحفيين عام 1979. أما رابع الخونة وأخطرهم فكان كيم فيلبي الذي تغلغل في هيكل المخابرات نفسها وكان احد المخططين لسياستها وعمل لفترة كمنسق اتصال بين مخابرات بلاده والمخابرات الأمريكية.. أما الطريف بحق فهو تعينه عام 1944 كأول رئيس لدائرة جديدة مهمتها مكافحة تغلغل المخابرات الروسية في لندن (وهو ما يشبه تكليف الذئب بحراسة الغنم)!! وبدأت الشكوك تدور حول فيلبي عام 1949 حين عين في واشنطن كدبلوماسي رفيع وبدأ بالتواصل مع جاي برجس (زميله السابق) الذي كان يخضع لمراقبة ال CIA قبل هربه الى موسكو. وحين زادت الشكوك حوله استدعي للندن وفصل من الخدمة الخارجية.. ومع ذلك استمرت علاقة فيلبي بالمخابرات البريطانية - من خلال أصدقائه القدامى - وعاد للعمل فيها بين عامي 1956 و1963. وفي تلك الفترة بالذات ازدادت الشكوك حوله فتقررت مواجهته بالأدلة الجديدة. وفي نهاية 1962 عرض عليه العفو مقابل الإدلاء بأسماء الجواسيس السوفييت في لندن. ولكن قبل حلول موعد التحقيق الثاني اختفى من بيروت في 23 يناير 1963. وبعد ذلك بستة أشهر ظهر في موسكو - مع بقية الزملاء - حيث أشادت به الصحف السوفيتية كأحد أبطال الشيوعية في العالم.. وفي عام 1968 صدر له في بريطانيا كتاب بعنوان "حربي الصامتة" روى فيه قصته كاملة.. وقرأته شخصيا في سن الخامسة عشرة.. وفي مايو 1988 توفي في موسكو عن 76 عاماً كأخطر جاسوس عرفته بريطانيا وكأنجح جاسوس جندته روسيا حتى اليوم!! .. بقي أن أشير الى أن كيم فيلبي هو ابن الجاسوس والمستشرق المسلم المعروف سنت فيلبي الذي عمل مع المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى. وقد دخل في الإسلام وحج إلى مكة وزاول التجارة في الحجاز واشتهر كأول غربي يجتاز الربع الخالي.. كما وضع عدة كتب تحدث فيها عن آل سعود وعلاقته بأهل نجد وسكان الحجاز الذين عرفوه باسم الحاج عبدالله فيلبي!!