ضمك يحرم الهلال من صدارة دوري روشن    تتويج نتائج السباق من الحفل الحادي عشر لميدان الفروسية بالمدينة المنورة    ضبط (15) إثيوبياً في جازان لتهريبهم (486) كجم "قات"    انعقاد «الملتقى القرآني» لمديري وأئمة الشؤون الدينية بمكة المكرمة    بمشاركة 18 دولة.. انطلاق الفعالية التقنية الأكثر حضورًا في العالم «ليب».. غدًا    «السالمي» يتوَّج بكأس خادم الحرمين الشريفين للقدرة والتحمل    بعد لقائه بالشرع.. أرياس: نضع الأساس لإغلاق ملف الأسلحة الكيميائية في سورية    لبنان أمام فجر جديد: حكومة مكتملة بعد جمود طويل    المملكة تشارك في تمرين «أمان» بباكستان    ربع مليون طالب وطالبة في 1700 يحتفلون بيوم التأسيس بالطائف    هل تتأثر هدنة غزة بتناقضات المعايير الإسرائيلية    الأحساء تختتم ملتقى الحرف والفنون    الاتفاق يواصل انتصاراته على حساب الأخدود    400 مشارك بالمعرض السعودي للاختراعات والابتكارات    محمد مروعي مجيري حاصد جائزة الإعلام بمنطقة جازان .. يضع العسل السعودي على خارطة التميز العالمية ..    مفوض الإفتاء موجهًا رؤساء الجمعيات اللحمة الوطنية من القيم الأساسية التي تعزز من تماسك المجتمع    جامعة خالد تكرم الجامعات العربية المدرجة في تصنيف 2024    العلاقات السعودية - الأمريكية: احترام التاريخ والتعاون    وزير الرياضة يستقبل رئيس الأولمبية الدولية في الرياض    إنطلاق مؤتمر السمنة السنوي الدولي الثامن بالخبر    جوارديولا يسخر من حكام الدوري الإنجليزي بعد إصابة نيكو جونزاليس    الصين تعلن اكتمال بناء أكثر من 30 ألف مصنع ذكي    شركة اليسر راعيًا ذهبيًا في مؤتمر ليب 2025    برنامج ماجستير لتمكين الكوادر الوطنية من قيادة القطاع السياح    1383 حالة ضبط للمنوعات بالمنافذ خلال أسبوع    وزير التعليم يكرم المعلمة اللحياني    تخصصي تبوك يكرّم الموظفين والأقسام المميزة    القتل تعزيراً لأمير زاده لتهريبه الهيروين    الأمير تركي بن هذلول يفتتح مهرجان «الرقش النجراني» لعام 2025    هل تنجح المساعي الأفريقية في حل أزمة الكونغو الديمقراطية؟    روسيا: تخفيض سعر صرف الروبل أمام العملات    ترمب: سأفرض رسوماً جمركية على دول كثيرة    «الداخلية»: ضبط 21 ألف مخالف للأنظمة في مناطق المملكة خلال أسبوع    ترقية م. بخاري في هيئة الإذاعة والتلفزيون    الدكتوراه ل«السهلي»    المنتدى السعودي للإعلام يستقطب شخصيات عالمية في نسخته الرابعة    انخفاض درجات الحرارة ورياح نشطة مثيرة للأتربة على عدة مناطق في المملكة    ماتياس: لهذا السبب استبعدت «فيرمينيو»    تحويل منزل فيروز «القديم» متحفاً في لبنان    الأردن.. مقتل عائلة كاملة إثر استنشاق غاز مدفأة    انطلاق بطولة VEX IQ لصُنّاع المستقبل في تصميم وبرمجة الروبوتات    جوجل تضيف علامات مائية خفية للصور للكشف عن التعديلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي    إيمري يتطلع للتحدي الضخم بإعادة ماركوس راشفورد لمستواه    جامعة أمِّ القُرى تستضيف الاجتماع التَّشاوري الثَّامن لرؤساء الجامعات    الوحدة يُعلن عن تعرض أنظمة الشركة المشغلة لمتجر النادي ل «الاختراق»    أمير القصيم يهنئ تجمع القصيم الصحي بفوزه بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية 2025    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنوير بين الشرق والغرب
نشر في الرياض يوم 20 - 10 - 2016

قبل أكثر من 12 عاما، وتحديدا في 13/5/2004م نشرتُ في هذه الصحيفة (الرياض) مقالا بعنوان: (اليابان ليست نموذجا)، وكان في مجمله يتعمّد تفنيدَ تلك التصورات الواهمة الساذجة، التي تشتغل بالوهم، وعلى الوهم. فهي من جهة، تتصور اليابان شرقا خالصا، شرقا منغلقا على ذاته، ومنفصلا عن الموروث الغربي التنويري، شرقا احتفظ بالموروث الشرقي دونما تغيير على مستوى القيم، على الرغم من تطوراته التقنية المذهلة، ومن جهة أخرى، تتصور إمكانية أن يفعل العرب/المسلمون كما فعلت اليابان، اليابان المُتَوهّمة التي تعدو أن تكون بناء ذهنياً، وليست اليابان كما هي في الواقع.
في اعتقادي أن اليابان، أو بالأحرى عالم الشرق عموما، لا ينبغي أن يكون نموذجا من الأصل. المتأسلمون والقوميون الانغلاقيون – ومن موقع التشابه الضمني - يطرحون الشرق (الشرق المُتوهَّم) نموذجا؛ ليتمكنوا من الاحتفاظ بالثقافة الانغلاقية الاستبدادية ذات الروح الطغيانية. تصور هؤلاء عن التقدم بسيط جدا، وساذج جدا، بل ومغلوط جدا. إنهم يُفسّرون تخلفَ العالمين: العربي والإسلامي بإرجاعه إلى الفشل في مجال التقدم التقني. وحتى عندما يناقشون المسائل التي تمس عصب الكينونة الإنسانية، تلك المرتبطة بالحريات الأساسية أصالة، يتناولونها من حيث انعكاسها على التقدم المادي الذي يرونه محدودا في مسارات التطور الصناعي.
إن التطوّر كما هو في تصور التيارات الانكفائية، الإسلاموية والعروبوية هنا، ليس تطورا في مسائل ترسيخ مبادئ الحريات والحقوق في الثقافة وفي الأنظمة المؤسساتية، وإنما هو – فقط – تطور الصناعات، والصناعات الحربية التي تشغل الوعي الصراعي خاصة. فمثلا، نجدهم عند مناقشتهم لمسائل الديمقراطية، يتناولونها في الغالب من زوايا خاصة، لا ترتبط إلا بدورها في التنمية الاقتصادية والخدمية، وليس من زاوية ارتباطها العضوي بنمو التصور الإنساني عن الإنسان.
إنْ كنا نريد تحرّراً إنسانياً حقيقياً؛ لندع الشرق؛ ولنعمد إلى استلهام الثقافة الحرة التي تصنع الفرد الحر، لا الثقافة التي تلغي الفرد، ولنتذكر جيدا، وعلى الدوام، مقولة هنتنغتون عن أزمة الديمقراطية في الشرق: «الموروث الصيني الكونفوشيوسي والذي يركز على السلطة والنظام والتراتبية وتفوق الجماعة على الفرد يخلق معوقات للدمقرطة» (صدام الحضارات، ص412).
ومع هذا، فهؤلاء مقتنعون في أعماقهم أن منطق العصر الحديث الذي ينتظم شتات الحضارة المعاصرة، هو منطق الحداثة الغربية، التنوير الغربي، وليس منطق الموروثات الانغلاقية التي ورثوها من أسلافهم، أو تلك التي يطرحون خيار استيرادها من الشرق الاستبدادي.
كتب دانيال برومبرغ عن مراوغة الخطاب الإسلامي في الجزائر من حيث نوعية ما يطرحه؛ وفقا لنوعية المتلقي المستهدف. كتب يقول: "فالإصلاحيون يتكلمون بلغة أصولية عندما يخاطبون أتباعهم الخلّص، ويستحضرون أفكار الأمة والشريعة الإسلامية والوحدة. ولمخاطبة حلفائهم المحتملين في الطبقة الوسطى المهنية والانتلجنسيا ورجال الأعمال، يعمد الإصلاحيون إلى انتقاء الأفكار والموضوعات والرموز التي يستقونها من مخزون الحداثة" (التعدد وتحديات الاختلاف، إعداد: دانيال برومبرغ، ص311).
طبعا، هذا ليس بدعا، بل هو نموذج لأي خطاب متأسلم، وهو نموذج لا يكشف عن طبيعة المراوغة في مثل هذه الخطابات المخادعة فحسب، وإنما يكشف عن أن هؤلاء يعون تمام الوعي أن "الحداثة الغربية" - تحديدا - هي المرجعية الحقيقية للحقوق المعاصرة التي تفهمها الشرائح المستنيرة التي تريد أن تعيش عصرها، وأن مفردات الحقوق المعاصرة لن تجد مرجعيتها في تراث الأسلاف، الذي يتماهون معه عند مخاطبة الشرائح الاجتماعية التي لم تصل بعد لمعرفة أبجديات حقوقها، بينما يتماهون مع خطاب التنوير الغربي عند مخاطبة الشرائح الأكثر تطورا وانفتاحا، وبالتالي، الأكثر معرفة بمنطق العصر، وبما يتضمنه هذا المنطق من حقوق لا يمكن تجاهلها بحال.
يحلو لكثيرين خلط الأمور، والمزج بين مسار التيار العقلاني الغربي الذي ينتظم مسيرة الانبعاث الحديث، وبين مسار الأحلام والهِوَايَات اللاهية؛ فيذكرون عصر الهوس بالشرق، أي غرام بعض مفكري الغرب بثقافة الشرق في القرن الثامن عشر؛ كتأكيد على محورية الفكر الشرقي في التأسيس للحضارة المعاصرة، وبالتالي (وهذا هدفهم النهائي) إمكانية الاستغناء عن الغرب بحضارة الشرق، التي هي – وفق هذا الزعم – أصل الحضارة الأصيل!.
نعم، تزامن عصر التنوير مع بزوغ هذه الظاهرة (الهوس بالشرق)، ولكنها لم تكن كما يتوهم هؤلاء من طبيعة العلاقة، التي يريدونها تأسيسا، بينما هي أشبه بهِوَايات عابرة، يتلهى بها الغرب من باب كونها ظاهرة مُغايرة، تريحه من عناء صرامة التفكير العقلاني الذي أصبح هوية العصر الحديث.
لقد ساد اعتقاد عند بعض مثقفي القرن الثامن عشر أن في الفكر الشرقي (ليس العربي، بل الشرق الأقصى) ما يمكن أن يكون أساسا فلسفيا متسقا ملائما لنظريات العلم الحديث؛ على اعتبار أن الموروث الكنسي، الكاثوليكي خاصة، يقف حجر عثرة في طريق تقدم العلم الحديث. لكن، وأيا كان الأمر، هذا لم يكن إلا نوعا من خداع الذات المتفلسفة/المفكرة، ونوعا من خداع الجماهير. فمن خداع الذات أن هؤلاء المفكرين رسموا صورة عن الشرق وعن الفكر الشرقي غير ما هي عليه حقيقة. ومن خداع الجماهير، بل وخداع الثقافة ذاتها، أن فكر الشرق لم يكن يُطرح من قِبَل هؤلاء عن قناعة حقيقية به، بل لمناكفة الفكر التقليدي الكنسي السائد، كما فعل فولتير، عندما كان يعرض – مُمَجّدا – من ثقافة الشرق ما يؤكد به صحة التدين الربوبي المناهض لخطاب كهنة الكنيسة الكاثوليكية، وكما فعل شلنغ الذي مدح المتون الهندية المقدسة؛ زاعما أنها أسمى من الكتاب المقدس.
إذن، ليس ثمة قناعة حقيقية بعقلانية ثقافة الشرق، بل على العكس، كان فلاسفة الغرب العظام مقتنعين إلى حد اليقين بتواضع الفكر الشرقي، وخاصة من حيث تصوراته المرتبطة بتحرر الإنسان واستقلاله الفردي.
هيجل قال عبارته الشهيرة: "عرفت أمم الشرق فقط أن الواحد حر (أي الإمبراطور)، وعرف العالم الإغريقي والروماني فقط أن البعض حر، بينما نعرف نحن أن جميع الناس في المطلق (الإنسان من حيث هو إنسان) أحرار" (التنوير الآتي من الشرق، جي. جي. كلارك، ص111).
وأيضا، نجد أن هلفيتيوس في كتابه (عن العقل) يُدين المديح المفرط لنظام الحكم الاستبدادي في الصين ويراه طغيانا غاشما، ومنتسكيو اعتقد أن الدولة الصينية طغيان قائم على الخوف، وكوندرسيه في مخططه لتاريخ العقل البشري يعرض الصين باعتبارها عائقا للتقدم السياسي والأخلاقي، وفي وقت لاحق، أصبحت الصين موضوعا للازدراء الثقافي العام.. إلخ.
(التنوير الآتي من الشرق، جي. جي. كلارك، ص89و90و91).
إن كل هذا لا يُلخّص حقائق الواقع فحسب، بل ويلخص مجمل الرؤية الغربية السائدة عند كبار الفلاسفة حتى في زمن الهوس بالشرق. فتراث الاستبداد المناهض للحريات عموما، وللحريات الفردية خصوصا، التراث الفكري والسجل الوقائعي في هذا المجال، هو تراث شرقي راسخ، يقف على الضد من تراث الغرب العقلاني الذي أسس لأبجديات الحرية والديمقراطية منذ أيام اليونان.
ارتباط التحرر الإنساني، التحرر الحقيقي، بتراث الغرب التنويري أصبح اليوم من الحقائق التي لا يعني تجاهلها إلا دفن الرؤوس في الرمال. مهما ذهبنا ذات اليمين وذات الشمال، فلن ننجو من حقيقة تصرخ فينا: لا حضارة إلا حضارة الغرب، ولا ديمقراطية إلا ديمقراطية الغرب، بشهادة الواقع الممتد لأكثر من ثلاثة قرون.
يقول المفكر الأميركي/هنتنغتون، بعد استعراض واسع وتفصيلي لمسار الديمقراطيات في العالم كله، خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم: "الديمقراطية كانت الأكثر نجاحا في البلدان حيث توجد تأثيرات مسيحية وتأثيرات غربية" (صدام الحضارات، ص347).
وهذا طبيعي، وحقيقي في آن، فحيث لم تترسخ مبادئ الثقافة الغربية ذات النفس التنويري؛ فلا مجال للأمل باستقرار الديمقراطية؛ لأن الديمقراطية في مبادئها الأولى، وفي آلياتها، وفي مخرجاتها، هي منتج غربي، لا يمكن أن يشتغل إلا على وعي يتلاءم معه؛ وإن كان ليس شرطا أن يتطابق معه في تفاصيل الخيارات الفرعية التي تفرضها شروط التاريخ والجغرافيا.
إن كون الفرد، من حيث هو كائن مستقل؛ لا تتحقق حريته إلا من خلال استقلاله، يبقى مفهوما غربيا غائبا عن مُجمل ثقافة الشرق.
هناك قناعات راسخة في ثقافات الشرق، تتضاد تماما مع مبدأ الاستقلالية الفردية، كما تتعارض مع مبدأ المساواة الإنسانية؛ بانجذابها إلى تصورات تراتبية متوارثة، لا يبدو أنها قابلة للاجتثاث في المستقبل القريب.
يشرح هنتنغتون هذه الروح الشرقية، لا من زاوية كونها ثقافة تحكم مجتمعات الشرق قديما وحديثا، ويراد لها أن تحكمها في المستقبل، وإنما أيضا من زاوية انعكاسها على السياسة الخارجية/الدولية للدول التي تجد مرجعيتها في هذه الثقافة، يقول: وجهة نظر الصين الدولية التقليدية انعكاس لرؤية كونفوشيوسية حول المجتمع التراتبي: لا توجد شمسان في السماء، لا يمكن أن يوجد إمبراطوران في الأرض، وكنتيجة لذلك، الصينيون لم يكونوا متعاطفين مع مفهوم الأمن الجماعي أو متعدد الأقطاب. الآسيويون عامة يرغبون في قبول تراتبية في العلاقات الدولية. نظام توازن القوى غريب عن آسيا.
اليابانيون مثل الصينيين يريدون السياسة الدولية كتراتبية؛ لأن سياستهم المحلية كذلك.(صدام الحضارات، بتصرف ص407وص411).
هكذا هي الثقافة التقليدية في كل المجتمعات المتخلفة إنسانيا، حيث يكون الإنسان الفاقد للحرية الحقيقية بين خيارين؛ لا ثالث لهما: إما قاهرا أو مقهورا، إما سيدا، وإما عبدا، ولا يمكن أن يكون إنسانا حرا مساويا لكل الآخرين؛ لأن هذا خارج نطاق الوعي الإنساني لثقافات الشرق. وبلا شك، هي ثقافة تبدأ نواة علاقاتها الاستبدادية من أصغر الوحدات الاجتماعية: الأسرة، ثم القبيلة، فالمدينة، فالدولة، فالعلاقات الخارجية/الدولية، لتعكس حقيقة بُنْية تسلطية تُذيب الفرد في المجموع، أي تلغي الفرد لحساب المجموع.
إن ما أكده هنتنغتون من تسلطية الثقافة الشرقية؛ أكده وشرحه المفكر الأميركي الآخر فرنسيس فوكوياما، وهو من أصول يابانية، وبالتالي، فلكلامه مصداقية أعلى في هذا المجال؛ لكونه يحكي من موقع الخبير بثقافة آبائه. يقول فوكوياما: "وإذا كان الدستور والنظام الشرعي الياباني يعترفان مثلا مثلهما مثل دستور ونظام الولايات المتحدة الشرعي بالحقوق الفردية، فإن المجتمع الياباني ينزع أساسا إلى الاعتراف بالمجموعات فقط، فالفرد في مثل هذا المجتمع له كرامة في الحالة التي يكون فيها عضوا في مجموعة قائمة، يُطيع قوانينها؛ ولكن عندما يبدأ في التعبير عن كرامته وحقوقه الشخصية ضد المجموعة فإنه يتعرض إلى النبذ ويفقد مكانته، وهو الأمر الذي يمكن أن يكون مدمرا مثله مثل الدكتاتورية الواضحة أو الاستبداد التقليدي. فهذا الوضع يُولّد ضغوطا رهيبة تدفع باتجاه المماثلة التي يستبطنها أطفال هذه الثقافات في سن مبكرة".
ويقول أيضا، بعد تأكيده أن ما يقوله عن اليابان ينطبق على الشرق الأقصى كله: "إن المجموعة الاجتماعية الأساسية التي يُكنّ لها كل الأفراد الاحترام في اليابان، هي العائلة، وسلطة الأب الساهرة على الأبناء كانت نوعا من المثال بالنسبة لكل العلاقات في المجتمع بكامله، بما في ذلك علاقات الحكام بالمحكومين". ويؤكد ذلك بصورة نعرفها في الشرق الأوسط تماما. يقول: "وهكذا، فإن الوالدين اليابانيين يواصلان التأثير بعمق على قرارات أبنائهما الهامّة – كمثل اختيار المهنة أو الزواج – وهو الأمر الذي لا يمكن لشاب أميركي أن يقبله". (نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ص227 وص228).
هل الثقافة التي تعكسها هذه الصورة الواضحة التي رسمها فوكوياما عن المجتمع الياباني، وعن موقع الفرد فيه، هي التي نريد بها تنوير مجتمعاتنا التي لا تزال ترزح تحت القيود نفسها؟
هل نريد تعزيز قيودنا أم التحرر منها؟ حتى الديمقراطية اليابانية يشرحها فوكوياما في موضع آخر من كتابه، موضحا أنها لا تتمتع بالتحولات والتغيرات، كما هي الحال في الغرب، فالسياسة الجدية في اليابان - كما يقول ص 229 - تمارس خارج الساحة العامة، أي في البيروقراطية المركزية أو في الغرف الداخلية للحزب الليبرالي الديمقراطي. إنها ديمقراطية الشكل ودكتاتورية المضمون التي تحدثتُ عنها من قبل. ولا حاجة لنا في العالم العربي إلى ما يعزز الثقافة التسلطية.
أخيرا، إنْ كنا نريد تحرّراً إنسانياً حقيقياً؛ لندع الشرق؛ ولنعمد إلى استلهام الثقافة الحرة التي تصنع الفرد الحر، لا الثقافة التي تلغي الفرد، ولنتذكر جيدا، وعلى الدوام، مقولة هنتنغتون عن أزمة الديمقراطية في الشرق: "الموروث الصيني الكونفوشيوسي والذي يركز على السلطة والنظام والتراتبية وتفوق الجماعة على الفرد يخلق معوقات للدمقرطة" (صدام الحضارات، ص412).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.