فرانز هولر : أحد أهم الكتاب السويسريين في الوقت الحاضر، فبعد رحيل كتاب سويسرا أمثال دورينمات وماكس فريش وأخيراً الياس كانيتي يكاد هذا البلد يخلو من المبدعين حيث يخلد مع ناسه الى النوم اعتباراً من الساعة العاشرة مساء ليستيقظ في الصباح منصرفاً الى همومه الأخرى ومشاغل بنوكه الغامضة. إلا انه يتبقى اسم فرانز هولر كأحد المبدعين الذين فهموا لعبة الحياة في هذا البلد، الغارق في حياده وصمته الى حدود الملل. ولد هولر في العام 1943 وهو ممثل وكاتب يعيش في زيوريخ، يكتب الشعر والمسرح والقصة القصيرة والرواية، لكنه يعرف ككاتب قصة قصيرة. بل يمكن القول انه يكتب القصة الومضة، فالكثير من قصصه لا يتجاوز الأسطر. وهو في قصصه كاتب ساخر من الطراز الأول، إذ انه يخلط الجد في أقصى حدوده بالهزل الى أقصى ما يحتمل، غير مبال بتسلسل عناصره، حتى وإن بدا بعض قصصه أقرب الى العبث، إلا انها تحمل في عمقها سخرية سوداء مريرة. وعند قراءة هولر سيدرك القارئ بأي عين ينظر الكاتب الى ناس بلده، والى أي حد يتغلغل في أعماق هذا المجتمع الذي لا حدود لبذخه وترفه. إذ ان المشكلة الكبيرة التي يمكن للناس ان يعانوا منها، او ان يتصل الجار بالشرطة، هي ان تستحم في منزلك، في الساعة العاشرة وخمس دقائق مثلاً المسموح فقط للساعة العاشرة، وإلا فصوت سيلان الماء يقلق نوم الجار!. اللغة التي يستخدمها هولر تتوازى مع الموضوع الذي يطرحه او الفكرة التي يود ايصالها القارئ. وهو كاتب يهتم بالموضوع قبل كل شيء، لكنه يلجأ أحياناً الى المزج بين اللغة الشعرية والتورية وبين السرد الحكائي. اما في قصصه القصيرة فيستند كثيراً على الحوار، وكل ذلك من خلال مخيلة غرائبية لا تعرف المحرمات. غنى الواقع مع جنون الخيال يرسمان الخطوط البيانية لكتاباته التي توخز جوانب مختلفة من الحياة السويسرية. هنا مختارات من قصصه القصيرة. الرجل على الجزيرة كان هناك ذات مرة، رجل، وقد عاش وحيداً على جزيرة. وفي أحد الأيام، شعر الرجل بأن الجزيرة بدأت تهتز وتتحرك. "ربما عليّ الآن ان أفعل شيئاً" فكر الرجل. إلا انه بعد هذا قرر ان ينتظر. بعد برهة وجيزة، انهدت قطعة من جزيرته، وابتلعها البحر. كان الرجل قلقاً. "ربما الأحرى ان أفعل شيئاً ما" فكر الرجل. ولكن حين توقفت الجزيرة عن الاهتزاز، قرر الانتظار ثانية. "حتى الآن - قال لنفسه - كل شيء قد مضى على خير". ولم يمض وقت طويل حتى غرقت الجزيرة، وما عليها في البحر، واستقر الرجل في قاع البحر. "ربما كان الأجدر بي لو فعلت شيئاً" كان هذا آخر ما خطر في ذهنه قبل الغرق. البائع هل تعرفون المثل القائل: "باع للأيل وقاية غاز"؟ هذا ما نقوله عندنا عن شخص شاطر جداً. والآن أود ان أروي لكم من أين جاء هذا المثل. ذات مرة كان هناك بائع، وكان مشهوراً في مهنته، بحيث يمكنه بيع أي شيء، ولأي كان. لقد باع فرشاة أسنان لطبيب اسنان، ورغيف خبز لخباز، وجهاز تلفزيون لرجل أعمى. "حقاً انك أفضل بائع ولكن - قالت له زوجته - لو استطعت ان تبيع لأيل واقية غاز". وهكذا سافر البائع بعيداً، صوب الشمال، حتى وصل الى غابة لا تعيش فيها إلا الأيائل. "طاب يومك" قال البائع لأول أيل صادفه، "بكل تأكيد، حضرتك تحتاج واقية غاز". "ولأي سبب هذا؟!" سأل الأيل، وأضاف: "ان الهواء هنا جيد ونقي". "كل لديه حالياً واقية غاز" قال البائع. "أنا آسف جداً" قال الأيل "فأنا لا احتاجها". أجابه البائع: "ولكن سترى فيما بعد، انك أنت الآخر ستحتاج واحدة". وبعد فترة قصيرة، بدأ البائع ببناء مصنع، في وسط الغابة، حيث لا يسكن هناك سوى الأيائل. "أأنت مجنون؟" سأله أصدقاؤه. "لا، قطعاً" أجاب البائع، "فقط أرغب في ان أبيع للأيل واقية غاز". عندما انتهى بناء المصنع، راحت الأبخرة والغازات السامة تصعد بكثافة من مداخنه، ما جعل الأيل يأتي مسرعاً الى البائع، ويقول له: "الآن احتاج واحدة". "هذا ما توقعته" قال البائع، وباعه واحدة على الفور. "من أجود صنف" أضاف ساخراً. "الأيائل الأخرى" اجاب الأيل "هي ايضاً تحتاج الآن واقيات غاز. ألديك المزيد منها"؟ الأيائل لا تعرف استخدام صيغة التأدب "حضرتك" اثناء الحوار. "يا لكم من محظوظين" قال البائع "فلدي منها الآلاف". "على فكرة" سأل الأيل "ماذا تنتج من مصنعك"؟ أجاب البائع: "واقيات غاز". الأخوات الأعداء أختان اثنتان مضى عليهما زمن طويل ولم تلتقيا معاً، فقد اختلفتا في صغرهما، وتشاجرتا، ثم افترقتا. الكبرى منهما كانت طويلة وغنية، وكانت تسمع فقط عن الصغرى بأنها قصيرة وفقيرة. الصغرى كانت قصيرة، وفقيرة، وكانت تسمع فقط عن الكبرى بأنها طويلة وغنية. وبعد سنوات طويلة من الفراق، وعندما التقتا من جديد، رأت الكبرى ان الصغرى فعلاً قصيرة وفقيرة كانت، ورأت الصغرى ان الكبرى فعلا كانت طويلة وغنية. على الرغم من هذا فقد سرتا بلقائهما معاً. "أتعرفين ماذا"؟ قالت الصغرى "بامكاننا ان نلتقي معاً، مستقبلاً، بين الحين والآخر". "وهو كذلك، أنا موافقة" قالت الكبرى "ولا بأس، تعالي لعندي إذاً". قصة قصيرة "تعال، قل للأطفال: تصبحون على خير". نادت المرأة زوجها وهي راجعة من غرفة الأطفال، وكانت الساعة قد بلغت الثامنة. "حاضر" أجاب الزوج من غرفة مكتبه، وأكمل: "ولكن عليّ أولاً ان أنهي كتابة الرسالة". "انه قادم في الحال" قالت الأم للأطفال. وكان لا يزال الطفلان يجلسان معتدلين على سريرهما، كانا ينتظران الوالد، وكي يشيرا اليه كيف انهما رتبا ألعابهما المصنوعة من حيوانات قماشية قبل ان يناما. وعندما أنهى الوالد كتابة الرسالة، وجاء الى غرفة الأطفال، كانا قد غرقا في النوم. السنوات العشر الأخيرة حيوان يذبح، انه يبدو مثل سلحفاة عملاقة من دون درع. آخ، كم هو رقيق وطري، وكيف يمكن للمرء ان يرى هيكله العظمي عبر اللحم المتوتر، المشدود عليه. وأثناء ما كان القصاب يقطع أجزاء منه، كان الحيوان يستنجد ويستغيث بصوت خافت، لكنه واضح "لا، ارجوك!". ويكرر ذلك مرات عدة. لكن القصاب لا يلوي على شيء، بل استمر في القطع يخترق بموسه الأجزاء الرقيقية ويقصها، ومن ثم بضربات صغيرة يكسر العظام. والتفت الجزار برهة ليضع اللحم المقطوع على طرف. أرجو ان يكون الحيوان قد مات. وهنا رفع الحيوان نفسه ثانية، نصف رفعة، وهو متفحم، ينهنه من الألم، ويلتمس العطف والرحمة. وكنت واقفاً بالقرب من المشهد مشلولاً متجمداً، ومندهشاً من نفسي. هل يا ترى حاولت ان أمنع القصاب؟ وهل استنجدت بآخرين لنساعد معاً هذا المخلوق الذي يتعذب؟ وخلال ما كنت واقفاً هناك لا أزال، استيقظ في شك، ربما كان هذا الحيوان انساناً. المرأة العجوز امرأة عجوز كانت تعيش وحيدة، معزولة، وكانت حزينة على الدوام. لم يكن لديها أطفال قط، وكل الذي كانت تحبهم وترتاح لهم، قد ماتوا. لذا كانت تقضي طيلة نهارها جالسة قرب نافذة غرفتها وتنظر عبرها الى الخارج. وغالباً ما كانت تفكر: "آخ… لو كنت طائراً، وكان بمقدوري ان أطير". وذات يوم، عندما فتحت النافذة، ودخلت خيوط الشمس من خلالها الى الداخل، وسمعت زقزقة العصافير في الخارج، قالت في نفسها ثانية: "آه لو كنت طائراً، وأقوى على الطيران". وفجأة: لم تعد امرأة عجوزاً، بل صارت نورسة بيضاء جميلة، رفعت نفسها من على حافة نافذتها وارتفعت في الفضاء، لقد طارت في أجواء المدينةكلها، رسمت على فضاء البحيرة أقواس طويلة، حطت على أبراج كنائس كثيرة، وعلى درابزين الكثير من الجسور، والتقطت قطع الخبز التي كانت ترميها لها الجدات وأحفادهن على طرف البحيرة، وهي تصيح فرحة جذلى. حتى إذا ما كان المساء رفرفت عائدة الى البيت من جديد، ودخلت من النافذة الى بيتها، وحطت على الكرسي، وهناك عادت امرأة عجوزاً، وكما كانت تماماً في الصباح. "كان ذلك رائعاً" قالت لنفسها. في صباح اليوم التالي فتحت النافذة، وارتفعت بجناحيها من على حافة النافذة كنورسة، وراحت منذ الآن تفعل هكذا كل يوم. وذات مرة علت كثيراً جداً، وطارت بعيداً ولم تعد ترجع منذ ذلك الحين. ترجمها عن الألمانية طه خليل