أثار الفريق الراحل الزبير محمد صالح، اهتمامي الشخصي واهتمام غيري من المهتمين بالشأن السوداني وسبر أغوار تناقضاته المعقدة، وطلاسمه المستعصية على الفك وإعادة التشفير، محاولاً في ذلك ما أمكن الفصل بين تمنياتي الشخصية وقراءة الأحداث المجردة على أرض الواقع من دون عواطف. بدأ هذا الاهتمام بالرجل، منذ ظهر يوم الجمعة 30 حزيران يونيو 1989، بعبارة أخرى منذ اليوم الأول لانقلاب الفريق البشير على الحكومة الديموقراطية المنتخبة، حين تم اعلانه في تشكيلة مجلس الفريق البشير لقيادة الثورة لمناصب مفتاحية في الدولة لا تجوز ولا تتأتى بالمنطق - إن كان في السياسة منطق - إلا لمن يتمتع بقدرات عسكرية، وسياسية، وثقافية تؤهله لما حصل عليه، ولما قد يتركه من بصمات على الحياة العامة في ما بعد. ليلة التاسع والعشرين، أي الليلة السابقة للانقلاب، كان الفريق الزبير ضمن تشكيلة أخرى من ثماني ضباط كبار من قادة المدرعات، والقوات المحمولة جواً، والمدفعية والإدارة، قيد الاعتقال والتحقيق في الثكن العسكرية لضلوعهم في 18/6/1989 قبل انقلاب البشير بأقل من اسبوعين في محاولة انقلابية على النظام الديموقراطي كانت تهدف الى اعادة الرئيس السابق جعفر نميري الى السلطة. مما تسرب بعد ذلك من سير التحقيق ومن أقوال بعض زملائه في المحاولة لاحقاً، كان الفريق الزبير صاحب اقتراح ان لا تتم اذاعة البيان الأول للانقلاب ان قيض له النجاح الا بعد عودة الرئيس السابق نميري من منفاه في القاهرة واذاعته البيان بنفسه من الاذاعة السودانية. لم يكن الفريق الزبير عضواً في تنظيم الجبهة القومية الاسلامية التي وقفت وراء انقلاب الفريق البشير تخطيطاً وتنفيذاً ومساندة، بواسطة عناصر محسوبة على هذا التنظيم داخل المؤسسة العسكرية السودانية. ولم يشارك الزبير عملياً في الانقلاب ساعة التنفيذ، إذ كان معتقلاً، في محاولة انقلابية لا علاقة لها بما تم، وكان أعضاء التنظيم الاسلامي آخر ضحايا الرئيس السابق نميري الذي زج بهم في أواخر أيام حكمه في السجون ولم تنقذهم من بطشه إلا انتفاضة 6 نيسان ابريل 1985 المفاجئة، ما يعني أن التناقض بين المايويين - نسبة الى شهر مايو الذي شهد انقلاب نميري على السلطة عام 1969 - وأعضاء تنظيم الجبهة الاسلامية، كان يدعم الافتراض السائد آنذاك بأن التنسيق بين المتعاطفين مع أي التنظيمين أمر صعب ان لم يكن مستحيلاً. لم يكن سراً ان القاهرة ضاقت ذرعاً بالحكومة الديموقراطية المنتخبة برئاسة السيد الصادق المهدي، ولم يكن سراً أنها كانت متعاطفة مع الرئيس السابق جعفر نميري، الذي حكمه طوال الستة عشر عاماً أطول فترات الهدوء والتعاون المثمر بين عاصمتي وادي النيل، في تاريخ السودان الحديث. اندفعت القاهرة بقوة الى تأييد الانقلاب الجديد، والاعتراف بحكومته منذ ساعاته الأولى، ليس بالدعم السياسي والمعنوي وحده بل ساهمت في تقديمه الى الدول العربية الاساسية ذات التنسيق المباشر مع القاهرة وكذلك للمؤتمر الاقتصادي العالمي في باريس في الاسبوع الأول من شهر تموز يوليو 1989 بواسطة الرئيس المصري نفسه. ورأى الكثير من المراقبين والمهتمين بالشأن السوداني في وجود الفريق الزبير وما يمثله سبباً مباشراً لذلك. إلا أن شهر العسل المصري - السوداني كان قصيراً ستة أشهر فقط لأسباب كثيرة ليس مكانها هذا المقال. وتتوالى الأحداث. كان الفريق الزبير ممسكاً بالملف الأمني منذ اليوم الأول للانقلاب وحتى رحيله المفاجئ صبيحة الثاني عشر من هذا الشهر رئاسة مجلس الأمن القومي اضافة الى مناصبه المفتاحية الكثيرة. وعلى رغم انه تقلد حقيبة الداخلية مرة، إلا أن موقعه داخل مجلس الأمن القومي ظل كما هو والتزم طوال هذه الفترة بعسكريته البحتة، فلم يخلع بزته العسكرية وظل على صلة وثيقة بإداراتها ومقاتليها ووحداتها المنتشرة في ذلك القطر المترامي القاري. تعود معرفته الشخصية باقليم أعالي النيل وتركيبته السكانية وأهميته الاستراتيجية لاقليم جنوب النيل الأزرق في الشمال حيث أهم المواقع الحيوية للدولة السودانية: خزان الدمازين، والمحطة الرئيسية الكهرومائية، ومصنع الكنانة العملاق لانتاج السكر، ومشاريع الزراعة الآلية الضخمة لانتاج الحبوب، والبذور الزيتية الى كونه سبق أن عمل في القيادة العسكرية لهذا الاقليم وأصيب في العمليات، وهي التي دفعت به الى مغامرة غير محسوبة حيث ذهب الى لقاء الدكتور رياك مشار في الغابة حاملاً معه ملامح اتفاقية 21/4/1997 من دون تأمين أدنى اجراءات الحراسة والاحتراز وهي الاتفاقية التي علق عليها مشار بقوله: "لم يكن بوسعنا اضافة شيء واحد عليها، إذ كانت غاية ما نتمنى ونقاتل من أجله". وبذلك أضاف الزبير الى أرصدته في مراكز قوى النظام، بعداً آخر هو ملف السلام من الداخل في الجنوب. كانت ظروف موضوعية كثيرة تلح على مصر كي تعيد الحياة والدفء الى علاقتها مع جارتها الجنوبية. من تلك الظروف اختلال توازن القوى لمصلحة الدولة العبرية في غياب قوة ردع عربية تؤمن توازن المصالح نتيجة افرازات عاصفة الصحراء، في ظل نظام دولي قديم لم يمت تماماً، ونظام دولي جديد لم يولد تماماً ولم تتضح سمات تشكيله بعد. ذهب الزبير الى القاهرة في تشرين الماضي ليحاول وضع العلاقة بين شطري الوادي في مسارها التاريخي ووضعها الطبيعي، ولا شك أنه نجح في ذلك. وحتى اللحظة لا ندري، ولا يستطيع أحد الادعاء إذا كان نجاحه طبيعياً بسبب الظرف التاريخي، أم ان القاهرة أرادت ان يكون هو شخصياً ولأسباب تتعلق بماضي الرجل وتاريخه وارتباطاته دور في ذلك النجاح. ومهما اساء البعض الظن فإن القاهرة، وبعيداً عن العواطف، نقطة مفتاحية في علاقات السودان العربية والغربية لأسباب لها علاقة بالتاريخ وبالمصالح الكونية الكبرى في المنطقة في المنظور القريب على الأقل، والملف المصري نقطة تحسب للزبير وللأرصدة التي بدأت تتجمع خلف شخصيته. يؤكد عارفو الزبير وزملاؤه انه كان وسطاً في عسكريته وفي ثقافته ولم يعرف له اهتمام ملفت للنظر بالسياسة أو بالشأن العام. لذلك أصبح ما يحقق من نجاح لغزاً محيراً للمراقبين. أحد المقربين منه ممن عملوا معه وعرفوه في مجلس الأمن القومي، أجاب على تساؤلي ذات مرة في خريف العام الماضي، بأن الفريق الزبير لم يكن شخصاً خلافياً، كان يؤمن بالتخصص والمؤسسية، لم يكن مجتهداً لذلك وجد العاملون معه الحرية في الحركة والاجتهاد، وفي هذا يكمن سر نجاحه، اضافة الى قدرته على التنسيق بين الطواقم التي عملت معه. في ظرف تاريخي ضاغط بأزمة جديدة على العراق تنسحب ظلالها على الدولة السودانية على المستوى الخارجي، ومعاهدة للسلام تشرخ من الداخل بخروج اللواء كاربينو على بنودها، وتحسن ملموس في العلاقات السودانية - المصرية لم تكتمل صلابة الأرض تحته بعد، غيب الموت الرجل لتحدث حال من الفراغ والحيرة ولتضع من يحل محله في امتحان صعب. توقع الكثيرون أن يحل محل الزبير أحد زملائه في مجلس الأمن القومي، ورجحوا ان يكون الاحتمال الأول أحد العسكريين لسبب يتعلق بإرضاء المؤسسة العسكرية، وأن يكون خارج النواة الصلبة للتنظيم الاسلامي حفظاً للتوازن. أما الاحتمال الثاني فرجح أحد المدنيين داخل مجلس الأمن القومي وأن يكون من النواة الصلبة للتنظيم الاسلامي حسماً للازدواجية بين أقنعة الواجهات والتنظيمات الشبحية الحاكمة خلف الكواليس. في كلا الحالين يرتدي البعد الخارجي للقادم الجديد وقبوله من الدول الأساسية على مستوى الاقليم والعالم أهمية بالغة. فضّل من بيدهم الأمر الاحتمال الثاني، باختيار السيد علي عثمان محمد طه وزير الخارجية نائباً أول لرئيس الجمهورية. وليس في الأمر غرابة، فعلي عثمان هو نائب الدكتور الترابي، عمل معه عن قرب منذ منتصف السبعينات وأصبح نائباً له منذ تأسيس الجبهة القومية الاسلامية في منتصف الثمانينات، وهو العقل الحقيقي للحركة المدنية العسكرية التي نجحت في اطاحة السلطة المنتخبة في 30 حزيران يونيو 1989. لم تمانع شروط الوفاق الوطني وأسسه التي تقدمت بها لجنة الشريف الهندي في الداخل، أو تلك التي أعلن عنها اللاعبون الرئيسيون في المعارضة الخارجية، في الابقاء على رئاسة الجمهورية ك "مؤسسة" خلال فترة انتقالية إذا وصلت مبادرات الوفاق أو الحوار الى مبتغاها باطلاق حرية التنظيم والتوصل الى الية من نوع ما للانتقال والتبادل السلمي للسلطة. ولعل هذه الاعتبارات شكلت عاملاً مساعداً في الدفع بالسيد علي عثمان الى منصب نائب رئيس الجمهورية لحسابات خاصة بالتنظيم الحاكم. في وجود البشير وعلي عثمان مهندسا حركة 30 حزيران/ يونيو بشقيها العسكري والمدني وفي وجود الدكتور الترابي في رئاسة الجهاز التنفيذي للدولة، تصبح المرجعية على المستوى الفكري والتنظيمي موحدة للمرة الأولى خلال السنوات التسع الماضية. وهو أمر ايجابي إذ أنه سيحدد بوضوح وجهة الدولة وتنظيمها الحاكم في القضايا المطروحة على الساحة كقضية السلام وانهاء الحرب الأهلية، وقضية الديموقراطية واطلاق حرية التنظيم والتداول السلمي للسلطة والعلاقات الخارجية للسودان مع دول الجوار والعالم، خصوصاً أن كل ذلك تزامن مع المؤتمر الثاني للمؤتمر الوطني الحاكم.