يوم السابع من شباط فبراير 1991، كانت حرب الخليج الثانية - الحرب بين الحلفاء العالميين بقيادة الولاياتالمتحدة الاميركية، وبين العراق الذي كانت قواته غزت الاراضي الكويتية قبل ذلك بشهور - وصلت الى ذروتها، وراحت اهدافها تتبدل يوماً بعد يوم، تبعاً، في الدرجة الاولى، للمصالح الاميركية، وللافخاخ التي كان صدام حسين يقع فيها بسهولة يوماً بعد يوم. في ذلك اليوم، بدا واضحاً ان الاميركيين هم سادة الموقف، وان رئيسهم جورج بوش يحاول ان يملي على العالم كله ارادته. وكان واضحاً، كذلك، ان العالم، من الرجل الجالس على أعلى قمة السلطة في منظمة الاممالمتحدة - خافيير بيريز دي كويار - الى أصغر جندي يحارب على الجبهة، مستسلم تماماً للإرادة الاميركية ولمزاجية الزعيم العراقي في الوقت نفسه. وراح يتبدى ان المسألة كلها أصبحت أشبه بلعبة شطرنج بين شخصين غير متكافئين، وان الاقوى بينهما يحاول ان يطيل امد اللعبة ريثما يتمكن في نهاية الامر من تحديد مرامه منها. في خضم ذلك، كان هناك، على الاقل، زعيم اوروبي يحاول ان يجعل بلده تنفد بجلدها من المعمعة، بأقل الخسائر المعنوية الممكنة، بعد ان أدرك ان دور بلاده، كما دور البلاد الأخرى ليس مطلوباً منه ان يكون اكثر من دور "كومبارس" في لعبة بالغة التعقيد والالتباس. هذا الزعيم هو فرنسوا ميتران. ولما كان واضحاً ان ميتران يتولى قول "الكلمة - الضد" وسط الرضوخ المطلق للموقف الاميركي، راح العالم يترقب كل كلمة يقولها الرئيس الفرنسي، لأنه في خلفية كل كلمة كانت تكمن مواقف أقل ما يقال فيها انها تبدّت قادرة على رسم بعض حدود اللعبة، وإن بشكل موارب. في هذا السياق يتخذ اهميته الموقف الذي عبر عنه فرنسوا ميتران، رئيس الجمهورية الفرنسية، أي الدولة التي كانت في مقدمة الدول التي اندفعت لتخوض الحرب الى جانب الحلفاء، في الوقت الذي راحت فيه تواصل جهودها للوصول الى تسوية تجنب العالم اخطاراً فادحة، كان ميتران يرى ان صدام وبوش معاً قادران على ان يورطا العالم فيها. وهذا الموقف الاساسي عبّر عنه فرنسوا ميتران يوم 7/2/1991، حين توجه بحديثه الى الفرنسيين الذين كانوا يرقبون بعين القلق جنودهم يخوضون حرب الخليج، والطبقة السياسية في بلادهم تتخاصم من حولها. قال ميتران في خطابه المتلفز الصورة ذلك اليوم ان ثمة "محنة قاسية تعد للعالم" ولم يكن ميتران راغباً في ان يخفي عن الفرنسيين ان ثمة حرباً برية عنيفة باتت "لا مفرّ منها"، وكان ميتران يرى ان الهجوم الحليف سيتم قبل نهاية ذلك الشهر. اما بالنسبة الى احتمالات استخدام الاسلحة الكيميائية سواء أكان ذلك من قبل الجيش العراقي او من قبل جيوش الحلفاء، ولو على سبيل الرد، فقد أوضح فرنسوا ميتران موقفه وموقف بلاده بشكل نهائي - وكان واضحاً انه في حديثه ذاك يتوجه الى حلفائه اكثر مما يتوجه الى الخصوم العراقيين، ما اعطى كلامه طابع الانذار المبطن الموجه الى الاميركيين -، قال ميتران إن "فرنسا لن تسمح لأحد بأن يجرها على درب استخدام الاسلحة الكيميائية. وهي نفسها لن تستخدم، مهما كان الامر، أية اسلحة كيميائية او جرثومية او نووية، "لأننا لو فعلنا ذلك او سمحنا به سنكون كمن يسمح للبشر بالعودة الى عصر الهمجية". وذكر ميتران في هذا السياق ان ثمة 150 دولة في العالم من بينها العراق وقعت - بناء على دعوة من فرنسا - اتفاقاً يقضي بعدم استخدام هذا النوع من السلاح. وكان من الواضح ان المسكوت عنه في اشارة ميتران تلك هو ان الولاياتالمتحدة وغيرها من الحلفاء معنيون بهذا الحظر ايضاً. من ناحية ثانية لم يبد ميتران، في حديثه ذاك، تفاؤلاً كبيراً بالنسبة الى المعركة البرية الكبيرة المقبلة. وفي المقابل عبّر عن ثقته بأن الصراع نفسه سوف يكون محصوراً مكانياً وزمانياً، بمعنى انه لن يتمدد كثيراً، كما انه عبّر عن ثقته بأن "قوات الحلفاء سوف تمتنع عن الانزلاق في الصراع الى ما لا نهاية له"، كذلك عبر عن ثقته بأن ذلك الصراع لن يتحول أبداً الى "صراع دولي" أي إلى "حرب عالمية جديدة"، مؤكداً "اننا، ما ان يتم تحرير الكويت حتى نشعر بأننا حصلنا على كل ما نريد"، قائلاً انه لا يريد للحرب ان تشمل الاراضي العراقية كلها لأن ذلك سيؤدي الى خسائر بشرية وعمرانية ضخمة. وكان من الواضح في كل هذا ان ميتران يرسم، لحلفائه، شروط استمرار بلده في الحرب، ويطالب الاميركيين بأن يرسموا حدوداً لحرب، كانوا في تلك اللحظة يبدون غير تواقين الى وضع حدود لها.