في 24 كانون الأول ديسمبر 1929، توفي في باريس الفنان الاستشراقي ايتيان ديني الذي عرف برسمه الخاص لأهالي الجنوب الجزائري وباختياره حياة مختلفة عن السائد في المجتمع الفرنسي - الجزائري في مطلع القرن العشرين، ذلك انه انتقل للعيش في واحة في الصحراء الجزائرية واعتنق الاسلام وطلب في وصيته ان يدفن في واحته، بوصعدا. وفي بوصعدا انشئ عام 1993 متحف في المنزل الذي كان يسكنه ديني، لكن هذا المتحف تعرّض لحريق مفتعل عام 1995 يُقال ان المسؤول عنه ينتمي الى احدى المنظمات المتطرفة، وكان القرار بتكريس ايتيان ديني كپ"معلم للرسم الجزائري" صدر عام 1969 عن مجلس وزراء الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية برئاسة هواري بومدين. لماذا القرار بردّ الاعتبار الى فنان استشراقي في وقت كان الخطاب الثوري سائداً في الجمهورية الجزائرية ويتركز بشكل أساسي على محو تام للماضي الاستعماري؟ من هذا السؤال، ينطلق عالم الاثنولوجيا الفرنسي فرنسوا بويون في دراسة وافية عن ايتيان ديني صدرت عن دار "بالاند" في باريس، يعالج فيها وجهين رئيسيين من حياة الفنان، عمله في زمن الاستعمار ومن ثم اعادة امتلاكه من الأمة الجزائرية الناشئة. كان ديني زار الجزائر للمرة الأولى عام 1883 وكما جميع الفنانين الاستشراقيين عاد من رحلته مبهوراً بالضوء الذي وجده هناك. وبعد سنة، قام بزيارة اخرى ودخل حتى الجنوب، وبقي يقسم وقته بين باريس وشمال افريقيا حتى العام 1905 عندما قرر الاستقرار في واحة بوصعدا، عند أبواب الصحراء الجزائرية. وفي 1889، تعرّف ديني على شاب جزائري يدعى سليمان بن ابراهيم الذي لعب دوراً كبيراً في حياته، ذلك انه فتح للفنان مجالاً للتعرف على الأوساط المحلية المغلقة جداً التي استوحى منها مواضيع للوحاته. ومن خلال صداقته لسليمان وعائلته، تعلم ديني العادات وفهم بلاد الجنوب كما اتقن اللغة العربية واكتشف الديانة الاسلامية. وفي العام 1913، قرر ديني اعتناق الاسلام متخذاً لنفسه اسم ناصرالدين. وفي آخر حياته، في 1929، قام بفريضة الحج الى مكةالمكرمة. كان في الثامنة والستين من عمره وكانت الرحلة مرهقة للغاية، فبعد وصوله الى باريس حيث توقف قبل عودته الى الجزائر، ما لبث ان توفي. أقيمت صلاة عن روحه في جامع باريس وتلبية لوصيته، نقل جثمانه الى الجزائر كي يدفن في حديقة منزله. كان ديني، في بوصعدا، يحتل غرفتين حياديتين في منزل كبير يسكنه سليمان وزوجته وأخواته… وكان يُعامل كواحد من أفراد العائلة. يقول فرنسوا بويون ان هذا الترتيب كان يوافق الفنان كلياً من حيث انه لم يعد مسؤولاً عن الأمور المنزلية، كما كان سليمان يلاحق أموره بنشاط وفعالية سامحاً، بالتالي، للفنان ان يتفرغ لفنه وكتاباته. وعند وفاته، خلف ديني عدداً كبيراً من اللوحات والرسومات، وسبعة كتب حمل بعضها توقيع سليمان بن ابراهيم ايضاً منها "ربيع القلوب" 1902، و"السراب" 1906، و"الصحراء" 1911، و"لوحات من الحياة العربية" و"حياة النبي محمد" 1918، اضافة الى نصين نظريين للفنان: "كوارث الرسم" و"الشرق كما يراه الغرب". يوضح بويون في نصه ان قرار الحكومة الجزائرية تكريس ديني كفنان جزائري يتركز بالدرجة الأولى على خيارات ديني الايديولوجية، وبشكل خاص قراره في ان يدفن في مقبرة اسلامية، وعلى الفرضية بأن تعاطف الفنان مع الشعب الجزائري ادى الى ابتعاده عن المجتمع الاستعماري. ويعود بويون الى كلمات أحمد طالب الابراهيمي وزير الاعلام والثقافة الذي كان المحرك الرئيسي لعملية ردّ الاعتبار الى ديني، في تمهيده لكتاب باذخ نشر عام 1975 في الجزائر - العاصمة: "كان رسام التقاليد الشعبية، شاعر بوصعدا، والفنان ذا القلب الواسع الذي لم يتجاهل الشقاء والظلم والاذلال الذي كان يتحمله الأهالي". كما يعود الى كلمات سيد أحمد بغلي، مدير التراث في الوزارة وقتذاك، الذي يقول في مقدمة الكتاب ذاته الذي حمل عنوان "معلم من الرسم الجزائري، ناصرالدين ديني" ما يلي: "يلتفت ديني نحو العالم العربي ويعمل من اجل ان يفهمه الآخرون ويحبوه. مشاهد بليغة الأثر تفضح غالباً الظلم والبؤس والنفور الذي سببه نظام التسلط الاستعماري …". ويوضح بويون بأن كلاماً كهذا كان يبرر جمالية فن ديني التقليدية جداً حتى بالنسبة للمعايير السائدة في مطلع السبعينات في الجزائر، وان التركيز على "فن تصويري يعطي قيمة لدقة الملاحظة" كان يتطابق مع البحث عن "لغة بسيطة"، يمكنها ان تكون "في متناول الطبقات الشعبية". وبالتالي، أصبحت الواقعية "التصويرية" في رسم ديني أداة للمس الواقع ومن ثم لإظهار ان "كل نظرة عربية رسمها فنان الواحة كانت تتهم الوضع القائم". وبهذه الطريقة، كان الخطاب السائد يجر الى تصور ديني كشخص "ليبيرالي وكريم" وأكثر من ذلك كشخص "معاد بوضوح للاستعمار". لكن بويون، في دراسته، يظهر ان ديني، في نهاية الأمر، حافظ على علاقات جيدة مع وطنه - الأم وكان يعود باستمرار الى باريس. ومن جهة اخرى، يرى بويون ان المجتمع الفرنسي في الجزائر لم يرفض ديني كما قيل، مشيراً الى ان عدداً كبيراً من النصوص الفرنسية التي نشرت بعد وفاته لم تخلط بين قناعات ديني الدينية التي اعتبرت جديرة بالاحترام وبين خياراته الجمالية التي أصبحت بالية أمام انشغالات واهتمامات الفن المعاصر. وكتب أحدهم، غبريال أوديزيو الذي سكن الجزائر وعمل فيها، في نص عن ديني نشر عام 1993 في "لاروس الشهري المصور" ما يلي: "… لم يتخلّ عن أصله ولا عن وطنه، كما انه لم يقلع عن لباسه الأوروبي. اعتنق الاسلام لكنه بقي فرنسياً. وهذا سمح له ان يقدم خدمات حقيقية، خصوصاً خلال الحرب، بسبب التقرب بين الشعبين حيث كان يتمتع باحترام متعادل …". وكان ديني عاد الى باريس فور اعلان الحرب العالمية عام 1914 وكرس نفسه لمهمة رئيسية وهي المعاملة المخصصة للجنود المسلمين الجرحى والمتوفين. ومن اجل ذلك، يقال انه قام بما لا يقل عن 17 رحلة بين باريسوالجزائر على رغم المتاعب والصعوبات والنفقات… كما انه تمكن من انشاء "مستشفى اسلامي" و"مركز اسلامي للمرضى"، وساعده في عمله الوجهاء المسلمون المقيمون في فرنسا. ولم يخف ديني انتقاداته لضباط وزارة الحرب كما انه أظهر، بعد الهدنة، استياءه من سياسة فرنسا "الاسلامية" فكتب قائلاً: "… تطور المسلمين سريع للغاية، أخطاؤنا في المغرب وفي سورية تبدو لي غير قابلة للاصلاح …. ان استمر الوضع هكذا، سنفقد شمال افريقيا من دون شك …". يقول فرنسوا بويون: "كما عدد من الأشخاص من ذوي الأفكار الطليعية، كان ديني يعي ان التقارب يعتمد أيضاً على الاعتراف بالآخر، خصوصاً الاعتراف بالدًين الرمزي تجاه الخسائر التي حصلت خلال الحرب الكبرى. وانطلاقاً من هذه الحجة، اطلقت في جميع المناطق الاسلامية التابعة للامبراطورية الفرنسية حملة اكتتاب من اجل انشاء جامع كبير في باريس". وكان ديني الذي أهدى كتابه "حياة النبي محمد" الى ذكرى المسلمين الذين ماتوا من اجل فرنسا شارك بحماس في هذا المشروع، وقدم النصائح من اجل احترام "تلاعب الضوء"، "جوهر الفن الاسلامي" بالنسبة اليه داخل المبنى الذي دشن عام 1962. يقدم بويون تفاصيل وافرة عن حياة الفنان، وأبعد من ذلك، يعطي صورة واضحة عن مرحلة مهمة من تاريخ الجزائر المعاصر. وفي النهاية، يعود الى مشروع انشاء متحف ديني الذي تأجل لأسباب عدة ولم يرَ النور الا سنة 1993 بفضل نشاط واهتمام مهندسة معمارية تدعى بَركَهُم فرحاتي التي تعود جذورها الى قبيلة "ولد نائل" التي اشتهرت مع شهرة ديني، ذلك انه رسم نساءها في معظم لوحاته… لكن عمل بركَهم كپ"مسؤولة" عن المتحف لم يستمر طويلاً وبعد الحريق الذي ضرب المبنى، نقلت الى العمل في وزارة الثقافة، في انتظار أيام أفضل.