العلاقة بين فرنساوالجزائر علاقة تاريخية، ولطالما كانت، منذ حصول الجزائر على استقلالها، مثار جدل وصراع بين الشعبين ونخبهما. وإذا كان الجمهور الفرنسي يعرف وجوهاً كثيرة من الإبداع الجزائري الحديث والمعاصر، والتي خصص من أجله الكثير من المنشورات والمعارض، فإن النشاطات الثقافية المتمحورة حول العلاقة التاريخية بين البلدين تظل قليلة. ومن هنا أهمية المعرض الاستثنائي المقام حالياً في متحف «موسم» في مدينة مرسيليا في الجنوب الفرنسي تحت عنوان «صنع في الجزائر، جينالوجية أرض». تقتضي الإشارة الى أنها المرة الأولى التي يقام فيها، في متحف «موسم» منذ افتتاحه عام 2013 (وهو متحف مخصص بأكمله للحضارات المتوسطية والأوروبية)، معرض كبير حول الجزائر يضم وثائق نادرة، وبالتحديد مجموعة من الخرائط والرسوم واللوحات والصور التي يمكن من خلالها قراءة نظرة الفرنسيين والأوروبيين إلى الجزائر خلال مرحلة زمنية طويلة امتدت على قرنين من الزمن، وخصوصاً المرحلة الاستعمارية التي بدأت مع الاحتلال الفرنسي عام 1830 وحتى الاستقلال عام 1962، وخلال مرحلة ما بعد الاستعمار. أشرف على تنظيم المعرض الكاتبة الجزائرية ومؤرخة الفنون زهية رحماني والمسؤول عن قسم الخرائط في «مكتبة فرنسا الوطنية» جان إيف سارازان، بالتعاون مع «مكتبة فرنسا الوطنية» و»المعهد الوطني الفرنسي لتاريخ الفن»... أما اختيار مرسيليا لإطلاق هذ المعرض فيرجع الى العلاقة التاريخية التي ربطت مرسيليا المفتوحة على البحر المتوسط بالجزائر طوال قرون، والتي لم تقتصر فقط على تبادل السلع والتجارة بل أيضاً الأفكار والثقافة على رغم النزاعات والحروب. يقول مثل قديم إن «الصورة تساوي ألف كلمة» والخرائط والوثائق المعروضة قد تكون خيراً من عشرات الدراسات في اختصارها للكثير من ملاح الاستشراق حيث يمتزج العنصر العسكري بالتجاري والسياسي بالشعري والفني.... «منذ وصولهم الى أرض الجزائر عام 1830، قام الفرنسيون برسم الخرائط، وهي خرائط كانت في البداية بيضاء وتظهر مساحات شاسعة بلا سكان، لأن الفرنسيين كانوا من جهة يجهلون هذه البلاد، ومن جهة أخرى يتمنون أن تكون فارغة من أهلها لتحقيق مشاريعهم الاستعمارية»، قالت لنا زهية رحماني خلال تجوالنا في المعرض. وتابعت «الخرائط في هذه المرحلة المؤسسة للاحتلال الفرنسي ليست فقط أدوات علمية بل هي أيضاً وسائل بيد قواد الحملات العسكرية للتحايل ولبسط السيطرة والنفوذ على حساب السكان المحليين». هكذا تمحى أماكن كثيرة من الوجود ويعود رسمها من جديد وفق رؤية المستعمر. وبعد أن استقر الفرنسيون في الجزائر، أعادوا تنظيم البلاد وتقسيمها إدارياً وقاموا بإعطاء أسماء جديدة للأمكنة والشوارع والمدن بدل الأسماء المحلية القديمة. وبصورة عامة، شكلت الجزائر ولمدة تجاوزت القرن مختبراً للمحتلين في مجالات كثيرة ومتنوعة، منها الزراعة والسياحة والعمارة والعلوم وإدارة الأراضي... ومن نتائج هذا الاستعمار كان استبعاد الشعب الجزائري من إدارة بلده وإبعاده نحو الأقاليم البعيدة والفقيرة ومحو الكثير من المعالم من الوجود. ولا بد من التأكيد على أن المعرض ليس عن حرب الجزائر، بل هو شهادة تهدف الى قراءة الماضي على ضوء وثائق ولوحات وملصقات تعكس المراحل التي مر بها الاستعمار الفرنسي للجزائر، ومنها أعمال الفنانين التشكيليين الذين رافقوا الحملات العسكرية ورسموا إنجازات الجيش الفرنسي. ويعتبر جان إيف سارازان أنّ «ثمة مشكلة في تعاطي الفرنسيين مع الموضوع الجزائري، فليس هناك مساعٍ جادة لإعادة قراءة هذه المرحلة بصورة علمية وموضوعية وهذا ما ينعكس سلباً على العلاقة بين البلدين ويزيد من التوتر والصراعات. وما فشلت فرنسا في تحقيقه مع الجزائر نجحت فيه مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ما مكّن البلدين من طي صفحة الماضي وتحقيق مصالحة قادرة على مخاطبة المستقبل». يجيء معرض «صنع في الجزائر» اليوم بعد الأحداث الإرهابية التي وقعت العام الماضي في باريس وساهمت في تكريس الصور النمطية عن العرب والمسلمين وربطهم بالإرهاب والإجرام. وهو يبيّن، من جانب، قساوة الاستعمار الفرنسي للجزائر، ومن جانب آخر، التاريخ المشترك بين فرنساوالجزائر والحركة التي لم تتوقف يوماً بينهما على رغم جروح الماضي التي لم تندمل.