1 تعلمُ. ايها الصديق، ان هذه الرسالة الموجهة اليك. في لحظة الاسراف في التلاعب بالقيامات. هي سابقةٌ على ما يحدث. كما يمكن ان تكون لاحقةً عليها. فالتواصل الصعب بيننا لم يتوقف. منذ سنوات. رغم انك لا تستلمُ رسائلي. باستمرار. بسبب تعقّد الطريق الذي تقطعه الرسالة. حتى تصل العراق. او بسبب عدم استقرارك. في عناوين. هي ذاتها. ودائماً. لأبنية خربة. أو لأمكنةٍ تتبدل أحوالها. يوماً. بعد يوم. وها هي رسالة. اقتنعتُ ان أفاجئ بها بعض اصدقائك. ربّما. في مكان ما من الحزن والحداد. أفاجئ. هذا كثيرٌ. اغفر لي مبالغاتي. الصادرة. أحياناً. عن حبٍّ في التقرب من الآخرين. لستُ أدري كيف أفسر سلوكاً كهذا. وهو يصيبني. لمرّات. ولذلك فانْ. أفاجئ. ضربٌ من المهاترة. كلُّ الناس يعلمون كيف يعيش اليوم. عراقي. بسيط. وأنت في فقرك تتجاوز حدّ البساطة. لتنضم الى فئة العمّال المياومين. الذين يقومون بالاشغال المرهقة. مقابل. أقلّ أجر ممكن. فكيف. إذن أفاجئ أحداً بخبر عنك. او بالكتابة اليك؟ لنبتعد عن المبالغة. ما أمكن. أقول. لنفسي. ان الناس. والأصدقاء على الخصوص. يدركون الفواجع اليومية. التي نطلع عليها أحياناً في الأخبار. او ينقلها لنا قادمٌ من هناك. استبعد المفاجأة. وأنا اكتب اليك.او عنك. في الحقيقة لا أميّز بينهما. وليست متيقناً. بالضبط. ما الدافع الذي أرغمني على كتابة رسالة. على هذا النحو. ربما شعرتُ أني بحاجة لهذه الكتابة. حرّةً من كل التوّهمات التي قد تستولي عليّ. وأنا منشغل بالتأمل. وفعلاً تأملتُ. هذه الأيام رسالتك الأخيرة. تأملتها جيداً. وأنا مدرك ان الجواب هو من قبيل المستحيل. هكذا أتخيلُ الاستجابة لما تنبئني به. ولما تنتظره مني. في آن. صديقٌ في بغداد. شاعرٌ يراكم الفقر. في زمن يتخلى عنه الموتُ ذاته. كما عبرتَ لي في الرسالة. من التأمل الى الكتابة. الحرة. بدون هدف قابلٍ للتصميم. يُحتمل ان تتصف طريقة الكتابة بالاختيار. لمَ لا؟ اختيار مدركٌ بوعي عميق لنوعية المرسل اليه. في عنوان محدّد. وبدرجة الانفعال التي تستطيع الرسالة ابلاغها. وبمجرد اعادة التفكير في الأمر يبدو لي كلّ شيء سراباً. فلا يبقى. في النهاية هل هناك نهاية لمثل تخيلاتي؟ سوى اني أجهل تماماً لماذا ألحّتْ عليّ رغبة في الكتابة اليك. او في كتابة رسالة تخصّك. وترفضُ ان تظل محصورةً بيننا. التلاعب بالاسراف في القيامات لن يزيدك خراباً. ولن يضاعف آلاماً. هي في حد ذاتها فاقت - الضعف. وضعف الضعف. 2 خربةٌ شبه مفتقدةٍ وسط بغداد. شارع الرشيد الذي قطعته اثناء زيارات لي في الماضي القريب. منذ عشرين سنة. أتذكّر. من الجهة اليمنى ساحةُ تمثال معروف الرصافي. من الجهة اليسرى ساحة الميدان. وأنت ترسم لي المخطط تشير الى مسجد الحيدرخانة. هنا. في هذه المساحة العريضة تقيم. أعني تقضي وقت البحث عن راحة من تعب يشتد بحمل أثقال على كتفيك المتعبتين. أتخيلك جسداً نحيلاً. قامةً طويلةً. وكتفين تهويان قليلاً الى أسفل التعب. عليهما ترفع الأكياس أكياس ماذا؟ وكيف أسأل حمّلاً عمَّ يحمل؟ انه يحّمِلُ ما يؤّمرُ بحمله على كتفين كانتا صلبتين ذات يوم. ثم ها هما تهويان. مكانك يعسر عليّ تخيله. فمهما حاولت ان أقترب من الخربة فلن أفلح. انني تعودت عليها في ما أشاهده من أمكنة خربة. هجرها السكان. أولاذ بها صعالكةٌ ومتشردون. لن أجعل منك صعلوكاً ولا متشرداً. أنت شاعر. وشاعرٌ جميلٌ جداً. وشاعر وحيدٌ جداً. لا تنسى أبداً ان الشعر هو ما يهبك قوة الكلام. الهامس. مع صديق بعيد. لم يلتق بك مباشرةً ذات يوم. وإنما هي القصيدة بمفردها التي وصلت بينكما وتأصّلت في المحبّة. وهذا ما أؤكده لنفسي وأنا أقرأ عن انتقالك من حرفة الخبّاز الى الحمّال. من قبل كنت تلازم التنانير. لفحاتُ النار الموقدة طيلة الليل والنهار. هي ما كنت تكسب منه قوت يومك. وجهك أمام حرارة التنّور. لهب النار المتصاعد. والدخان الذي يجفف الحدقتين. شيئاً. فشيئاً. بعينين يجف ماؤهما كنت تلازم التنانير. الجوع هو حرفتك في الحالتين. تبحث عن قوت شاعر. يكتب قصائده من أعماق العذاب اليومي. ومن جسدٍ مشبع بالصور الراقصة. لا تتباهى بقصيدة ولا بنظرية القصيدة. مثل ما نفعلُ. نحن. الغافلون عن مصيرك. بين ساحتين. تمثال معروف الرصافي والميدان. وأنت تذرع الأرض لعلها تدل عليك زبوناً كريماً بنظرة انسانية. على الأقل. كيف لي ان أصف حياتك او شقاوتك؟ يحسن بي ان أتفرّس في الخط الذي كتبتَ لي به رسالتك. انه عريض. هذا واضح. تريد للصفحة ان تمتلئ بسرعة. لكي تقوى على القليل من الكلمات. ربما كنت تودّ كتابة كلمة واحدة. صرخة. من تنّور. ومن تنور الى ألم الكتفين. كيسٌ أو أكياس. صناديق. قُفّة من تراب واسمنت. جهازٌ الكتروني. ثلاجة. دولاب. طاولات وكراسي. مدفأة. كل ذلك يدخل في عداد ما يصبح صالحاً للحمل. على كتفيك. وأنت تفتّش عن قوت يومك. في كل لحظة يهدّدك الجوع. والجوع في كامل جسدك يعوي بك. وفيك. ايها الصديق. 3 أفكر في هذا الأمر. أتخيّلك الآن تجري في الأسواق. او تتكئ على هيكل شاحنة. جوعك أقوى منك. جسدك ينحل وينتظر. حملٌ خفيف لأجرٍ تسدُّ به الرمق. وفي الليل تأوي الى الخربة. خربتك. لتمضع كسرةَ خبز. بلحةٌ او بلحتين. وفي معصميك يتكوّم دم العروق. لا وقت لديك لتنظر الى السماء. انت في جوعك وخربتك. وحيداً. وألمُ الحدقتين يتزايد. ذلك ما اكتسبته من الماضي. خبّاز. ومن الحاضر. حمّال. انك تأكل جسدك. كي تعيش. يوماً. وسط جوع ذاقه حتى الحجر. تصوروا أرضاً يجوع فيها الحجر. وشاعراً يتخلى عنه الموت. كم لك من آلام تحصيها من الصباح حتى المساء؟ رأيت شعراء يكنسون الطرقات. شعراء اسكافيين. رأيت هذا في بلدي وفي أوروبا. ولكنهم مع ذلك لا يحملون على أكتافهم أكياساً لسد الرمق. تعبهم لا يتواصل على هذا النحو من العذاب اليومي. انهم يغنون. يستريحون من حين لآخر. ويقاسمون اصدقاءهم كلماتٍ او مشروبات. ينتعشون بالكلمات الصباحية والمسائية. قد يلجأ بعضهم الى الكتابة على كاغدِ أكياسِ الاسمنت كما كان يفعل شاعر برتغالي في أزقة المعاريف بالدار البيضاء. هؤلاء جميعاً يقومون بأعمال بعيدة عن عمل الشعراء المثقفين. الذين استطاعوا ضمان عيشهم من عمل يرتبط بمهن حرة. تعتمد خبرتهم الثقافية. محاسبون. محرّرون او مصحّحون في الصحافة. اداريون في مكاتب. هناك شعراء لم يبلغهم الحظ هل هي الكلمة الصائبة؟ مرتبة العمل في مهن ثقافية. فكان العمل اليدوي هو ما يسمح لهم بالعيش. انه عمل على كل حال. يتطلب جهداً عضلياً. لا يتوقف. ومع ذلك فهو عمل يضمن القوت اليومي. لهم. ولعائلاتهم. تحسّ بكرامةٍ ما تشع في أحداقهم. ولا ترتاب في كونهم يودون مواصلة العيش. او انهم على الأقل يصارعون الموت بطريقتهم. ويبتهجون بالشعر. كل ما رأيتُ واقعيّ ومحتملٌ. لا في الحكايات. بل في اليومي. في بقاع الأرض. لكنني. أمام حالتك أظل أتأمل. بدون جدوى. وتكاد نفسي تعترضُ عليّ في التأمل الذي لا يجدي. نيران تضطرم في أحشائي. وأنا أجهد تخيّلي. في الاقتراب من عذاباتك. وآلامك. كلمةٌ طويلة. صرخةٌ. منك تنفجر في دواخلي. وما أنت معي. لا تفارقني. 4 خربةٌ في بغداد. لشاعر يجفّ ماء حدقتيه. وهو. اذن. مهدّدٌ بالعمى. شاعرٌ صديق يسكن على مقربة مني مهدّدٌ بالعمى. هو الآخر. حكى لي انه لم يعد يستطيع السير بحرية خارج البيت. هو بحاجة على الدوام لمن يقوده. وأنت من يقودك لتحمل ما تحمل. على كتفيك المتهاويتين؟ عندما ذكرت لمسؤول قبل فترة قصيرة ان شاعراً مغربياً شاباً قد انتحر. أجاب بعقلانية ادارية بليغة في مكيدتها. كلّ شخص يمكن ان ينتحر. وهذا لا يخص الشعراء وحدهم. عجزتُ عن الاستمرار معه في الحديث. لأنه من هذا الصنف الذي يصبح مسؤولاً عن الثقافة ولا احساس لديه بمعنى انتحار شاعر شاب. وأنت حمّال. كل شخص معرّضٌ ليصبح حمّالاً. وهكذا نحلُّ أزمة تلاعب المثقفين بالكلمات. كما أفعل أنا. في هذه الرسالة. سيردّد اللامبالون. بك. وبالشاعر الذي يتخلى عنه حتى الموت. كنت أعتقد. من قبل ان عملك خبّازاً يشبه عمل اسكافي اعتبرت ذلك سرّاً من أسرار الشعر. فالشعر قادرٌ على ان يوجد حيث. لا نتوقعه. يوجد حيث لا يسمح له عمله بمتابعة الحياة الثقافية. في المقاهي. والأندية. والملتقيات. ينصرف الى قصيدته هادئاً. في صمته البعيد يفترش الحصى ويكتب. او ينشد أبياتاً. ثم الآن. يتبدد الاعتقاد. خبّاز. يُشرف على التنور. الحرارة الموجّهة نحو الوجه. وماء الحدقتين يجف. على امتداد الوقت. الذي لا يتغير. الظهيرة هي الفجر. والعشيُّ هي منتصف الليل. أوقات في وقت واحد. نيران التنانير. والحرارة التي تلتهم الاشفار. الجفون. الحدقتين. ولك اليوم كتفان يتضاءل صبرهما. لست أدري لماذا أحسُّ بأن حلقي خربة أخرى. هي الكلمات تجفُل. وفي الصمت أواصل التأمل. دون جدوى. حمّال. شاعر صديق. وحيدٌ. في الخربة. وألم جفاف ماء الحدقتين. واحتمال العمى. يداي شاحبتان. أودّ لو ان بإمكاني ان نتقاسم الصرخة. خفافيش تغطي رأسي. ويداي تنزفان. 5 لم تبتعد عني بغداد. يوماً. ولا ابتعد عني بيروت ولا القاهرة ولا وهران. في دمي يجري دمٌ اسمه محبتك. في الصبر. والشحوب. وتتالي التحديق. واضطرام النار. والخوف مما أتى. والعجز عن الوصول اليك. والنفي. وأنت. حمّال يذرع الأرض. في أرض. يجوع فيها. حتى الحجر.