يرحل الشاعر اللبناني محمد العبد الله عن سبعين سنة، يموت شعاع جنوبي جميل من أشعة الشعر العربي الحديث، تلك الشعلة - الشجرة التي بدأ ضوؤها يسطع في سبعينات القرن الفائت، وكانت جنوبية، أي من الجنوب اللبناني. محمد العبد الله من بلدة الخيام على الحد مع فلسطينالمحتلة. ولكن نشأته في بيروت، وتفتحه في كلية التربية آنذاك، ومزاجه الخاص، كل ذلك أعطى شخصه وشعره، تلك السمة الوجودية الحية. وهي سمة فيها من الحواس بمقدار ما فيها من التأمل. فالعبد الله شاعر حسي لأول وهلة لكنه لا يكتفي بالظواهر ويصفها كما يفعل إمام المذهب الظاهري في الشعر العربي الحديث نزار قباني. محمد العبد الله، وهو ينخرط في ظواهر الحياة، حتى يوهمك أنه يكتفي بوصفها، أو بالإنغماس فيها، تجده فجأة بحركة غير منتظرة، ينقلك إلى دواخل الأشياء، إلى محركاتها أو مسبباتها. ينفذ إلى اللب الحساس المؤلم للحياة. ينزع القشرة عنها بسرعة ويضعها وجهاً لوجه أمام ناصية الحيرة أو ناصية السؤال ويكشف عن المفارقة « عشرة سنتمترات لكي تصل إلى القلب/ ولكن كيف ستصل وأنت تقطع آلاف الكيلمترات بالاتجاه المعاكس؟» (من مجموعة «حال الحور»). كان العبد الله غصناً على حدة في شجرة الشعر الجنوبي. وظهر ذلك منذ ديوانه الأول «رسائل الوحشة» (دار الفارابي 1978 )، وتعزز تفرده وخصوصيته في إصداراته الشعرية التالية: «جموع تكسير» (1983) و»حال الحور» ( 2008) حتى ديوانه الأخير «أعمال الكتابة»، الصادر قبل رحيله بأشهر. وأهم ما يسم تجربته الخاصة هو أنه قرب كل معنى وكل حادثة أو ملاحظة عابرة أو شأن شخصي ويومي من الشعر، وفجر في القصيدة كيمياء الطرافة. وظهر في الكثير من الأحيان, وكأن المعنى ليس ضالته في الكتابة، بمقدار ما هو مستتر خلف قشرة الموضوع من دهشة أو مفارقة أو سؤال. لذا كان جريئاً على المفردة، وغير نخبوي في قاموسه الشعري: يقول في قصيدة من «جموع تكسير»: «وردة تذبل في الزاوية\ وردة مثل قلب النهار \ لا تقل آه للوردة الذاوية \ بل تقدم اسقها يا حمار» في هذا النص المختصر المباشر، المكشوف المعنى، طرافة وسخرية، وأضيف الحكمة. وهنا جرأة على اقتحام اللغة والمعنى معاً، وتناول قريب للشعر من أقرب أبوابه. فليس ضرورياً أن يكون الجمال معقداً، وأن يكون المعنى صعباً لكي يوقع القارىء في الحيرة. قد يكون الجمال أبسط مما نظن، وأقرب مما نظن. يكفي أن نلقي نظرة على الأشياء لنرى ما نريده فيها. وقد يكون ما نريده هو ما تعرضه علينا من حقيقتها، وقد يكون أيضاً ما نرغب في أن نراه فيها على ما يقول بيكاسو: «أنا لا أرسم ما أرى بل أرسم ما أريد» ... لكنّ محمد العبد الله، وإن كان في الكثير من شعره، ليس نخبوياً، بل هو وجودي يمكن أن يعثر على قصيدته في أي شيء. فهو يكفيه أن ينظر لكي يكتب، إلا أنه من أخطر الشعراء في إثارة الصدمة الشعورية في الموضوع وبالتالي في القارىء أو المتلقي. تأخذ عنوان مجموعته الشعرية «بعد ظهر نبيذ أحمر بعد ظهر خطأ كبير»، فترى أن الأشارة الحسية للتوقيت، المتمثلة بالنبيذ الأحمر، تمنحك مفتاحاً من الذوق (اللسان) إلى الشعر. وهي مسألة كان قد أسسها مارسيل بروست في روايته «البحث عن الزمن المفقود»، حيث بدأت تتداعى ذكرياته وتتفتح ذاكرته انطلاقاً من الرائحة. فكانت الرائحة هي أداة التذكر. يقول بدر شاكر السياب «لقد أثمر الصمت الذي كان يثمر \ بتين من الذكرى»، ويقول محمود درويش في «سرحان يشرب القهوة»: «ورائحة البن جغرافيا». محمد العبد الله قاده مذاق النبيذ إلى الخطأ الكبير. أكثر من ذلك، وبعيداً من الاكتفاء بتناول الكتابة من أي مكان اتفق. وحشد أنماط كثيرة منها بين دفتي كتاب واحد. كما فعل في «جموع تكسير» وفي «أعمال الكتابة» وسوى ذلك من مجموعاته، حيث تجد القصيدة الفصحى إلى جانب القصيدة العامية، إلى جانب الحكاية أو المسرحية الصغيرة إلى جانب التعليق السائر. أقول، أكثر من هذه الهلهلة في رؤية محمد العبد الله للشعر أو للكتابة على العموم، نجده صاحب مشروع شعري في قصيدته الطويلة «مصرع دون كيشوت»، وهي القصيدة الأساسية في ديوانه «رسائل الوحشة». وقد سمعتها منه وشاهدت شاعرها محمد العبد الله في مشهد مسرحي لا يغيب عن بالي حتى اليوم، في مربد الشعر العربي في البصرة العام 1978. كنا مدعوين معاً، وأذكر ممن شهدوا هذه الواقعة، من المعروفين شعراً ونقداً، سهيل إدريس وخليل حاوي ومحمود درويش وسعدي يوسف. وكان إلى جانبي في القاعة، على ما أذكر، طلال الحسيني وميشال سليمان. كثير من هؤلاء هم الآن في العالم الآخر، والباقون أحياء يذكرون الواقعة على الأرجح. كان مقدم الأمسية فجاً من اتحاد الكتاب العراقيين. واستدعي محمد العبد الله ليقرأ قصيدته، فتناول من جيبه قصيدة «دون كيشوت» وبدأ يقرأ. كان العبد الله طويلاً صاحب صوت مسيطر وملامح وجه دونكيشوتية. ووصل إلى المقطع الذي يصف فيه حمار مرافق دون كيشوت ...آنذاك لم يتحمل مقدم الأمسية ما يسمع، فالتفت إلى الشاعر معترضاً وقال بالعراقية : شنو هاد؟ أي ما هذا؟ قال العبد الله: هذا دون كيشوت. ألا يعجبك ؟ قال لا. قال إذن أنسحب. نزل عن المنصة ... ولكن لدقيقة واحدة فقط. إذ اجتمع من ذكرنا من الشعراء والأدباء وأرغموا مقدم الأمسية على الاعتذار والانسحاب وعاد العبد الله إلى المنبر ليكمل إنشاد قصيدة «دون كيشوت». أتخيله الآن، بعد الموت، يكمل إنشاد القصيدة، بصوته المجروح وجسده المخرب. الشاعر الفارس* قبل العشرين من العمر، ولدت صداقتنا من الشعر والموسيقى ومتعة الحياة، وعقدنا مع بيروت علاقة البنوّة والندّية، نحن الذين رفضنا الآباء سالفاً عن سالف. ولم نختلف على النساء، أي على رفيقات الدراسة اللواتي دخلن أحلامنا تماماً عند رفضهن العلاقة العابرة. بقيت صورهنّ في الأحلام حتى قبل سقوط الفارس، أنت، ورحيلك المأسوي. الشاعر الفارس أكلته نذالات المادة قبل أن يفترسه السرطان، وفي ملاعبة المرض والخسران يكتب القصيدة المركّبة التي تحتاج حيوية الشافي، مزيجاً من سيولة الوجدان وعمارة للعقل تتجاوز معهود العقل. أغمض عينيك يا محمد العبدالله لئلا ترى وجه الحبيبة وقد تغضّن، ولتحتفظ به كما رأيته للمرة الأولى وأحببته هناك على شاطئ بيروت، وجهاً ناهضاً من البحر، والقطرات تنساب من الشعر على الخدين وعلى عينين تلمعان ابتساماً. أغمض عينيك عن حروبنا، وعن أنانيات صغيرة، وعن حسد بدائي يفرّق بين الأخوين، بين الصديقين. ولم تنتظر طويلاً الإذن بدخول مكتب صديقك، فقفلت راجعاً إلى حريتك. تركته الى سلطته البائسة. في أواسط السبعينات من القرن الماضي، حان وقت القطاف فأصدرنا دواويننا واحداً بعد الآخر، مواجهين الحرب بالشعر، ليعلو السلام والإنسان والطبيعة فوق الكلام المسنّن والقتل الممنهج وتدمير الوطن باسم الوطنية. وإذا كان كل منا استكمل لغته وأَنسَ إليها، فأنت وحدك لم تأنس إلى لغة أو نسق. المتمرّد أنت في شعرك العمودي والحر وفي قصائد نثرك وفي كتاباتك الكثيرة العصية على التصنيف. وكان ملعبك واسعاً، من الكلام المباشر الطالع من اليومي الملموس، إلى الأفكار المجرّدة الصادرة من عمق التجربة، والمستعلية على أجساد لا تستحق الدخول في أناقتها. وأنا المتعجّل دائماً، حتى في وداعك، أخاطبك فيما الواجب يأكل روحي أخت روحك، وأحيلك على الصورة بالأبيض والأسود وخلفنا الحبيبات. كان زمن لنا وعشناه. * محمد علي فرحات الكلام الأخير** ذهبتُ إلى المستشفى، في آخر مرة التقيته فيها منذ يومين، وكنت قد سمعت بأنه لم يعد باستطاعته أن يتكلم. وكنت قد فكرت بألاّ أزوره وهو في هذه الحال. وعندما اقتربت من غرفته في الممر الذي يفصل بين غرف المرضى، سمعت صوته بوضوح وهو يكلّم زائراً عنده. ثم عندما دخلت إلى غرفته فاجأني هكذا، من دون سلام أو كلام، بالقول: - كوني على هيأتي يا هيئة الأممِ وهذا مطلع قصيدة كنتُ قد كتبتُها في مطلع ستينات القرن الماضي متهكّماً من أحوال العالم آنذاك. فما الذي جعله يتذكّر هذه العبارة من القصيدة؟ لم أسأله وقتها عن ذلك، واكتفيتُ بأن افترضت، بأنها متابعة لكلام جارٍ بيننا من سنوات، حيث كان من أسبوع لأسبوع، ومن شهر لشهر، يفاجئني باتصال هاتفي يتعرض فيه بالنقد الجارح والساخر لهرتقات السياسيين والقادة، هنا وهناك، ولهرتقات الأدباء والمثقفين، وهو يشرف على العالم، كرجل حُر، كرجل شديد الحرية، من برج وحدته العاجي والعالي الذي أقام فيه بعدما قرر الانسحاب من العالم التافه والركيك والموحل، الذي لا نزال نتخبّط جميعنا فيه، ونتسوّل من الحياة بعض المسرّات التافهة والرخيصة. لقد أعطيت يا محمد، يا أخي ورفيقي وصديقي، العالم أثناء عبورك فيه أكثر بكثير مما أخذت منه. فماذا أخذت من الحياة البخيلة مقابل ما أعطيته من شعر وأدب فريدَيْن، وحضور شخصي دافئ وآسر، سنتذكّره، نحن أهلك وأصدقاؤك، بعيون دامعة. ** حسن عبدالله