بعد أيام من المناقشات بين سياسيين واقتصاديين ورؤساء شركات كبرى حول الأزمة التي شهدتها دول شرق آسيا وآثارها المستقبلية، والتي شكلت العنوان الرئيسي للمؤتمر السنوي للمنتدى الاقتصادي الدولي السنة الجارية، بدا العالم منقسماً حول الاسباب التي أدت الى اندلاع الأزمة وكيفية الخروج منها بينما برز إجماع واحد بين هؤلاء على ان مستقبل "المعجزة الآسيوية" التي تحولت الى "كارثة آسيوية" خلال بضعة أشهر يعتمد على ما يجري في ثلاث بؤر من العالم هي اليابانوالصينوالولاياتالمتحدة. واعترف نائب رئيس الوزراء ووزير التجارة التايلاندي سوباشاي بانيتشباكدي الذي اشعلت بلاده شرارة الأزمة في دول شرق آسيا خصوصاً كوريا واندونيسيا، ان جذور الأزمة تكمن في سوء الادارة والرقابة على تدفق الأموال المقترضة بالاضافة الى عوامل مرتبطة بالدورة الاقتصادية. وقال ان تحرير الاسواق المالية من دون رقابة والاعتماد المطلق على الاجراءات النقدية بدل تصحيح النظام المالي وافتقاد التكنوقراطيين الى بعد النظر أدت الى سوء قراءة الاشارات الواردة خصوصاً من الخارج ما حال دون توقع الانهيار الذي شهدته الاسواق الآسيوية. وحاول نائب وزير المال الياباني ايسوكوي ساكاكيبارا في المقابل إلقاء اللوم على العولمة وتوجيه أصبع الاتهام الى الولاياتالمتحدة بالذات على اعتبار انها القوة الرئيسية وراء فكرة ايجاد نظام اقتصادي عالمي. لكن سرعان ما ثارت ردود الفعل المدافعة عن فكرة العولمة من كل اتجاه لا سيما من نائب وزير شؤون شرق آسيا الاميركي ستانلي روث الذي رد قائلاً "انها ليست أزمة العولمة بل هي أزمة سوء ادارة الحكومات". ولم يتأخر أي من الخبراء في إلقاء اللوم على الممارسات الخاطئة التي اعتادت عليها دول تلك المنطقة، فبالنسبة الى رئيس "بنك شرق آسيا - فرع هونغ كونغ" ديفيد لي، فإن آسيا "لم تتوقف عن ارتكاب الاخطاء خلال الاعوام العشر أو الپ15 الماضية سواء من خلال نقص الشفافية لحركة الاسواق أو عدم وجود آليات للرقابة، وتبعه الخبير الاستراتيجي لپ"دويتش بنك" المقيم في طوكيو كينيث كورتس فقال ان أزمة الأخيرة "قد تكون أزمة سيولة وقد تكون ايضاً أزمة ثقة، لكن جوهرها أزمة تخطي القدرات". وأوضح ان "القدرات التي تم تكوينها في الاسواق الآسيوية لا يمكن دعمها في ظل مستوى الربح الحالي، اذ ان الممولون وجدوا انه لا يمكن الاستمرار في الاستدانة والاقراض من دون عائدات تدعم السيولة لديهم وبالتالي فإن التعويم الحاد للعملة جاء لتحقيق ربح على المدى القصير ما سيجعل المصدرين قادرين على التصدير وتحقيق أرباح سريعة لسداد ما عليهم، ولكن ليس من دون تبعات على المستوى السياسي". ويعتبر الخبراء ان ازدياد الصادرات من تلك الدول التي شهدت الأزمة الأخيرة سيزيد الضغوط على منتجين في مناطق اخرى تعتبر أقل قدرة على المنافسة ما قد يؤدي الى أزمة اخرى مقبلة من نوع آخر وفي مناطق اخرى خارج آسيا. وجاء التحذير من تبعات ما يجري حالياً في اسواق شرق آسيا من مسؤولين سياسيين اميركيين اذ قال مساعد وزيرة الخارجية الاميركية لشؤون الاقتصاد والتجارة ستيوارت ايزنستات ان الولاياتالمتحدة معنية باحتواء الأزمة بأسرع وقت ممكن من خلال دعم صندوق النقد الدولي لسببين رئيسيين: أولاً لأن دول شرق آسيا بالاضافة الى كونها حليف سياسي للولايات المتحدة تعتبر سوقاً رئيسياً للاقتصاد الاميركي الذي تبلغ نسبة صادراته اليها 20 في المئة على الأقل أي انها تتجاوز ما تصدره الولاياتالمتحدة الى كندا وانهيار اقتصاد تلك الدول يعني انخفاض وارداتها من الولاياتالمتحدة. ويكمن السبب الثاني في ان المصنعين الآسيويين يعتبرون في ذات الوقت منافسين لنظرائهم الاميركيين، وكلما انخفضت قيمة عملاتهم تدنت اسعار التصدير الى السوق الاميركية وجعلت البضائع الاميركية غير قادرة على منافسة البضائع المستوردة من آسيا. وفشل الرئيس الاميركي بيل كلينتون حتى الآن في اقناع الكونغرس بالموافقة على رصد 18 بليون دولار لصندوق النقد الدولي مخصصة لانقاذ دول شرق آسيا، ومن غير المؤكد اذا ما كان سينجح في تعديل موقف الكونغرس عندما يطرح الموضوع ثانية امامه خلال الأسابيع المقبلة. وتتجه الانظار الى اليابان بشكل خاص في الفترة المقبلة لمراقبة اذا ما كانت ستتحرك لانقاذ جاراتها خصوصاً وان اصابع اتهام وجهت اليها لأنها لم تفعل ما فيه الكفاية في هذا المجال وما قدمته حتى الآن جاء متأخراً لا سيما وانها رفضت نسبة الفائدة والضرائب، في حين ان المطلوب زيادة الطلب في أسواقها المحلية لانتشال الاسواق المجاورة. لكن ساكاكيبارا نفى بشدة تلك الاتهامات قائلاً ان الاجراءات التي اتخذتها اليابان حتى الآن والمتمثلة في حقن موازنتها بما نسبته واحد في المئة من اجمالي الناتج القومي مهمة وفاعلة مضيفاً ان اجراءات أخرى ستتخذ خلال الشهرين المقبلين. وشدد على أن اليابان "تملك الإرادة السياسية من أجل لعب دورها في تخفيف الأزمة". وتخشى الدول التي تأثرت بالأزمة الأخيرة تعويماً للعملة الصينية على رغم محاولة نائب رئيس الوزراء الصيني لي لانكينغ طمأنة المستثمرين بأن بلاده التي لم تتأثر حتى الآن بشكل مباشر بالأزمة الآسيوية لن تقدم على خطوة كهذه بل "ستأخذ بعين الاعتبار مصالحها الوطنية ومصلحة المنطقة ككل". وأضاف "انا في الصين نعلم ان أي تعويم لعملتنا سيؤدي الى تكرار انخفاض أسعار العملات في الدول الآسيوية ما سيشكل كارثة ولذا فإن الصين لن تصب الزيت على النار". وفي حين برز تيار خلال مناقشات دافوس رأى ان الخروج من الأزمة سيستغرق بعض الوقت خصوصاً ان إعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية والمالية لمنع الممارسات الاقتصادية الخاطئة التي اتبعت حتى الآن لن يتم بين ليلة وضحاها، سعى تيار آخر الى طمأنة المستثمرين الى أن "المعجزة الآسيوية" لم تنته بعد وأن الأسواق الآسيوية سرعان ما ستعود الى انتعاشها. وظهر اهتمام واضح لدى مستثمرين أوروبيين لم يخفوا أنهم ينظرون الى أزمة الأسواق الآسيوية كمناسبة للاستثمار الرخيص هناك ويرون ان تلك الأسواق لن تلبث ان تستعيد عافيتها خلال سنتين أو ثلاث. وظهر اهتمام رجال الأعمال والمستثمرين هذا على رغم ان مسؤولين في صندوق النقد الدولي وحتى سياسيين أميركيين يعترفون ان لا أحد يملك خطة بعد لاخراج الدول الآسيوية من ازمتها بل صدرت تحذيرات عدة من مخاطر اجراء إعادة هيكلة لاقتصادات الدول الآسيوية من دون وجود هيكليات اجتماعية قادرة على استيعاب تبعات تلك العملية. وفي حين ألح نائب رئيس الوزراء التايلاندي على أن بلاده لا يمكنها الانتظار وأنها بحاجة الى تدخل سريع من صندوق النقد الدولي إلا أن النائب الأول لمدير الصندوق ستانلي فيشر شدد على أن أي ضخ للأموال الى السوق الآسيوية يجب أن يتم بعد "ضمان مراقبة ذلك الضخ في المدى القريب وايجاد آليات لتلقي معلومات حول أساليب الاقراض في قطاعي المصارف والشركات". لكن المشكلة تكمن في أن لا أحد بما في ذلك صندوق النقد الدولي يملك القدرة على ضمان تحقيق تلك الشفافية المطلوبة أو اسنادها الى جهة مسؤولة لا سيما بعد أن ثبت فشل المصارف الآسيوية في تحقيق ذلك، وما على دول آسيا إلا الانتظار.