تركت مكتبة القاهرة الكبرى حيث مباضع البحاثة العرب منهكةٌ من تشريح جسد توفيق الحكيم الذي ظل، كما يبدو، طرياً على رغم مئوية ميلاده. كان ذلك في قاهرة تلهث تحت نار شمس قاريّة صباحاً وترتعب في برد ليل صحراوي في أواسط شعبان أي بين نهاية التشارين ومطلع الكوانين من هذا العام 1998 ليكتمل العقرب المئوي في دورته معلناً مرور قرن على ولادة واحد من أكبر كتّاب الدراما العرب وأحد مؤسسي هذا الفن. لم يكن جابر عصفور من منصّته الرسميّة في المجلس الأعلى للثقافة في مصر ولا من مكتبه النقدي مراقب وناقد عربي معروف يدرك الى أي مدى سيُمثل بالجسد الحكيمي بعيداً عن جذوة إنسانيته المتقدة وصفاء سؤاله الإبداعي المتواصل الذي واكب طيلة القرن المنصرم واعداً بحمايته قروناً أخرى من التفكك والتفتت في حين لا تقوى أجساد حاضرة أن تبقى بنضارتها في معمعاننا العربي الثقافي اليوم. ظل توفيق الحكيم طيلة "أيامه" المئوية محتفظاً بهدوئه وابتسامته المعهودة وهو يواجه أعتى الهجمات التي جعلت منه عاجزاً مصاباً بالقصور الجنسي حتى لا تكاد تُصدّق، وأنت تسمع ما يقال من تأويل عن سوء علاقته بالمرأة، أن يكون قد أحب وأنجب يوماً، وأن له أحفاد جاء واحد منهم ليبارك هذا "المشرح" بإسم الوفاء للجد الكبير، ناهيك عن سيل التصويبات والتصحيحات والاستعراضات والتقويل والتبني التي كانت تضجُ بها الصالات والأشداق والأسماء وكأننا لا نُحسنُ من فنون القول إلا ما نحكم به على سوانا. تلك هي أسهل صيغ التحقق والتسجد في الخطاب العربي ثقافياً بين وسط العاملين بهذا الحقل وجماهيرياً بين عموم الناس. فما كاد يبدأ متحدث مقاله إلاّ وصار يحكم يصحح صاعداً هابطاً منبر الحكم. بين ثنائية المديح والهجاء، الخير والشر، الجمال والقبح، الأسود والأبيض يتأرجح الخطاب النقدي العربي مثل طقس القاهرة "أيام الحكيم" بين الحر والبرد مساء صباح. للخروج من هذه الثنائية لا تكفي ندوة ولا سنوات سجال ولا أسواق عكاظ جديدة للنثر هذه المرة. ان المنتديات التي تعجّ بها الساحة الثقافية العربية أصبحت شكلاً من سوق للخطاب النثري أقرب هو الى عكاظ من حيث وظيفته واستناده الى جدل الخطاب فقط في مواجهة العالم. وإذا استثنينا بعض المهرجانات الشعرية التي هي تواصل وامتداد عكاظي شكلاً ومضموناً فإن النثر العربي هو الآخر، على رغم بعض المحاولات الجادّة والنادرة في النقد والتحليل والتأريخ، لم يفلت هو الآخر من قبضة الشعر كخطاب لأن المتحدث، خصوصاً في مثل هذه المنابر سرعان ما يقع في فخ غنائية المنبر فيكتفي بشكل الخطاب الحماسي الهتافي، أحياناً ناسياً أن للنثر وظيفة تأسيسية للمعرفة المنقولة نثراً وليس هو مجرد شكل طيّع لشحن المقولات والمرادفات والحماسات. ذلك سؤال في أزمة المنطق العربي المعاصر الذي ما زال شعرياً - على رغم قرن الرواية كما يقال وغلبة انتشارها - وكأننا أمّة حكمت بالشعر... فقد كان حبلها السري الذي خرجت به الى العالم وربما سيكون الحبل الذي ستتدلى منه. لا ينفع حتى ناثر عظيم مثل توفيق الحكيم أن يردع أقرب قرائه والعارفين به أن يجدوا سرّ النثر العميق في رسالته الى نصنا المعاصر. هذه الثنائية الجدلية هي التي يصفعنا بها الحكيم... وللخروج منها لا بد أن نتعلم كيف نخرج على الجسد وكيف نعود اليه، إنها رياضة ميتافيزيقية عرفها من القدماء اليقرأون اليونانية والينتشرون في العالم بين أقاصي الشرق في سمرقند ونهايات الغرب في الأندلس. رياضة جعلت من توفيق الحكيم من هو عليه اليوم، فتحت لنا مملكة من النثر نصول ونجول فيها، وهبتنا أرضاً جديدة وميادين مُشرّعة لكننا ما زلنا نتقاطع فيها كالظلال أمام جبال راسيات في مصر كالحكيم ومحفوظ وطه حسين وفي لبنان جبران وميخائيل نعيمة. ولنقل هذا بوضوح، لقد عبرنا الى هذه القارّة الجديدة من ضفة زولا وبلزاك وملفيل وغوركي وهمنغواي وتشيخوف لا من ضفة مقامات الحريري والهمداني ولا من سرديات الجاحظ ولا حتى من غابة حي بن يقظان. يجب أن نؤمن بجرأة بهذا لنتعلم كيف نخرج من الجسد الأم في ولادة ثانية الى العالم المعاصر أملاً في ألا ندفن أحياءً في الرحم الأول. ولنقل بوضوح أن الدراما فن أغريقي غربي المنشأ وأن توفيق الحكيم صوّرته فينا... وكذلك الرواية فإن عبقرية محفوظ هي امتدادٌ بلزاكي زولاوي بالأحرى، وأن النقد العربي المعرفي الذي يتأسس اليوم على يد بعض النقاد كجابر عصفور وخالدة سعيد وإحسان عباس هو تأسيس عربي لعمارة معرفيّة ذهنية وافدة ولا علاقة لها بأبي هلال العسكري ولا بقدامة بن جعفر. إننا نؤسس لثقافة معاصرة جديدة كما نتلمس ملامح وجه عصري عالمي نؤثث بكل قوى الخلق والابتكار الإنساني عندنا عالماً عربيّاً نمنحه تفردنا وخصوصيتنا الحضارية التي كانت ثمرة التلاقح ولما تزل. يجب أن نصدّق أن "الأنا والآخر" التي أفرد لها الملتقى مائدة مستديرة، ليست مجرد لعبة ثقافوية لا ولا حتى مجرد انعكاس مرايا صوفيّة، فالأنا والأخر هو الانشطار "الذريّ" الذي يصنع بطاقته الخلاّقة عالم الفن والإبداع. لا إبداع، لا ابتكار يذهب عميقاً في الكائن من دون شرارة الانشطار هذه التي تقع في أعمق ذرة من الأنا الصغيرة محدّثة الفرن التكويني للإبداع والخلق والتجدد. وما مسرحُ الحكيم إلا تجسدُ الآخر في الأنا العربية الكبيرة، ومن هنا فإن توفيق هو صورة الآخر في الأنا هو المسرحُ الآتي من شمال المتوسط ومن أغوار الغرب الأثيني - أثينا - مرتدياً حُلّة "الدراما" التي حفرت مسارحها وساحاتها في بلداننا بعلبك، قرطاج قبل أن تحفر ظلالها في لغتنا متجسّدة في مسرح الحكيم على وجه أخص. هذا الآخر الذي صار الأنا وجد في توفيق الحكيم العملاق الفرد الذي يربط حضارتين، اللحمة التي تصل الكوكبين ببعض فيختلطا وتبقى. تلك هي رياضة الخلق في الخروج من الجسد الأم وعلى الجسد الأم. وان كان لتوفيق الحكيم درس فمنها وان كان له نموذج فبها وان كان هو بتميّزه ففيها. وتوفيق الحكيم أيضاً جسارة الأداء حيث اللغة التي لا تهرم تتفتت في عاميّة يومية معروفة تدخل الى الخشبة المقدسة من دهاليز الأيام وحارات الليل. محدّثة سؤالاً خطيراً حول الهوية. فالسؤال العربي عربيّاً هو سؤال اللغة قبل كل شيء. وسؤال اللغة هو سؤال الهوية وسؤال الهوية هو سؤال الوجود. وهنا يفعل الحكيم شرخَه الخاص في ملامح الهوية اللغوية محدثاً ثقباً يطل على سماء من الأسئلة... ليس لأنه هو الذي بدأها، بل لأنه يطرح السؤال الكبير بحجم مكانته الكبيرة عندما يخلع بُرنصة العربي الفصيح الموشى ليتردى دشداشته المصرية ويخاطبنا عبر شخوصه وأبطاله فإنه بهذا يصرّ على هذا الشرح في مرآة الهوية، ربما بقصد تمزيق الملمح القديم لفسح المجال لوجه بملمح جديد. انه السؤال الأخطر والتمرين الأصعب الذي يدعونا توفيق الحكيم لممارسته فبعد التدرب على كسر حاجز الذات لنتعلم كسر المرآة. وكسر المرآة في اللغة، للفرد العربي اليوم لا يحدث إلا بشكل ارتطام كوكبي... كوكب يصدم كوكباً. لا يحدثُ هذا الكسر عندما نرتطم نحن الأفراد، أدباءً أو عاديين بمرايانا... ذلك خدش جزيئي. لكن مرآة الوجه العربي لا تتحطم إلا بارتطام النجيمات والمدارات في المجرّة الإنسانية بعضها بالبعض. إن مثل هذه الزلزلة وشيكة الوقوع... أو تكاد...ها هو الكوكب الغربي يتقدم بسرعة خارقة وإصرار أخرق نحوَ كوكبنا الشرقي وقمره العربي محكماً المدارات سائراً نحونا بتقنية هالكة ونحن نرقد في ظلام قمري مضيء. إن الساعة آتية لا ريب... وهذا الارتطام قائم تصلنا منه الآن الإشعاعات الحارقة والخالقة وان ينجو الطين من حالاته خلقاً وابتكاراً بين أيدينا فلأن شمس الكوكب الغربي فخرته واتقدت فيه... وان تحطم وتفتت بين أيدينا فلأننا أحكمنا الأبواب والأسوار وتركناه تحت شمس ماضيه لا تلهب إلاّ ذاكرتنا ومخيلتنا ليبقى صلصال الخلق في ملكوتنا الحاضر رطباً مفتتاً. ان اقتراب الكوكب الغربي من قمرنا هو الاختبار الأعلى في أعمق ذرة من كياننا لكي ندخل معركة الخلق والتكوين اليوم. وان استطاعتنا على الانشطار - كما أثرت - والإشعاع هو حبر الآتين من أبنائنا ليواجهوا هذا المصير الإنساني المحتم. هكذا كان يهمسُ توفيق الحكيم من وسادة مشرحهِ في "مكتبة القاهرة الكبرى" في أذني وأنا أخرج من الصالة لأرتمي في أقرب حافلة تقودني الى أحشاء القاهرة في مقبرة المماليك هناك حيث الشافعي ما زال يترجل فوق المنبر تصغي له المارة والأطفال والشواهد والغرباء...