يحب أن يسميه أصدقاؤه أبا يارا التي هي ابنته الكبرى، وأولئك الذين لا يحبون أن يذكروا اسماء النساء - وهم كثيرون في عالمنا العربي - يسمونه أبا سهيل، لأن أول من ولد له من الأولاد هو سهيل. ذلك هو غازي عبدالرحمن القصيبي مرشح العرب لرئاسة "يونيسكو". أبو يارا شاعر وكاتب وقصاص وروائي وإداري، لكنه قبل ذلك وبعده رجل محب للحياة. والحياة هنا ليست الجريدة التي تقرأها لكنها الحياة بمعناها الذي خلق الله البشر لحبها وإعمارها واشاعة البهجة فيها. وهذه المهمة لا تنطبق على أحد مثلما تنطبق على غازي القصيبي. فهو يمثل الكثير، لجيل كامل من أهل الخليج وكذلك العرب كأنه يحفظ بين جنبيه امتداداً طبيعياً للوحدة التي لم تتحقق للدول لكنها تحققت في بعض الأفراد المتميزين. هو ولد في الاحساء في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، ووالده من نجد وسط الجزيرة، ووالدته من الحجاز غرباً، ولا تخلو عروقه من دماء تركية "احب في فترات من حياته أن يقطعها، أقصد العروق". عاش وترعرع في البحرين، درس في القاهرة وأحب العرب بنواقص بعضهم وسلبيات الآخرين، فهو منهم قلباً وقالباً كما يقول المثل الشائع. وغازي ليس رجل اجماع لدى بعضهم، وهي صفة الرجال ذوي الرسالة الذين يصدقون مجتمعهم، وعدم الاجماع ذاك نابع من آرائه في السياسة والاجتماع والحياة. ألفت حول أعماله الكثير من الكتب بعضها لمصلحته وأخرى لنقده، لكنه في رأيي رجل يمكن أن يفيد منظمة "يونيسكو" التي رشح لرئاستها، فهذه المنظمة تحتاج الى شخص مثل غازي، متعدد المواهب يعرف قيمة الثقافة كما يعرف قيمة التعددية، والنقد الذاتي. ولعل الأخير يظهر أكثر ما يظهر في مداعباته مع صديق دربه الأستاذ الشاعر عبدالرحمن رفيع الذي وجده مرة وقد أطلق لحيته فلما أبدى رفيع عجبه من الأمر دس غازي في يده ورقة بها بعض أبيات الشعر يقول فيها: لا بد للشاعر من لحية تنبئ في الخمسين عن عمره تعلن للناس ذهاب الهوى وحلوه أكثر من مره عذر الهوى كان جنون الصبا فأطبق الشيب على عذره الشيب يا للشيب ما باله في شعره دب وفي شعره ولم تمر أربع وعشرون ساعة على دفاع غازي القصيبي عن منهجه الجديد في اطلاق اللحية، إلا وقد حملت الأخبار للشاعر عبدالرحمن رفيع انه قد حلقها، فكتب فيها الأخير مرثية يقول فيها: ما رأينا قبل هذا لحية عاشت قليلا مثلما لحية غازي لم تدم عمراً طويلا ولدت ذات صباح واختفت عنا أصيلا لحية ويحَ الليالي لم ترَ العيش الجميلا ما سعى مشط أنيق في ثناياها مجيلا لا ولا شمتْ بخورا وارتوتْ عطرا أصيلا لو علي اللحية يُبكى لبكيناها عويلا قتلتْ من غير ذنبٍ رحم الله القتيلا وبعيداً عن مداعبات الشعراء فإن منظمة "يونيسكو" في حاجة الى شخصية مركبة لا تقبل التعددية في مجال الثقافات فقط بل تكون لها القدرة على ادارتها أيضاً. فهذه المنظمة تفوق في أهميتها دور المنظمات السياسية التي يحتضنها مبنى منظمة الأممالمتحدة في نيويورك. فهذه المنظمات تعوق عملها دائماً ألغام العمل السياسي ومصالح الدول الكبرى والقضايا الخلافية المستعصية على الحل. أما بالنسبة الى "يونيسكو" التي قامت من أجل تطوير التربية والعلوم والثقافة لكل دول العالم فهي تقوم بهذا الدور الصعب والمهم في حقول منزوعة الألغام تقريباً. وعلى رغم هذا وقعت "يونيسكو" وسط أتون الحرب الباردة واتهمتها أميركا أكثر من مرة بأنها ألعوبة في أيدي دول الكتلة الشرقية، وهددت مراراً بالتخلي عن هذه المنظمة. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير حين أعلن الأمين العام السابق مختار أمبو - السنغالي الجنسية - مشروعاً جديداً هو "النظام العالمي الجديد للاتصال والإعلام". وثارت ثائرة الدول الكبرى لهذا الأمر ولكل ما سبق، فأعلنت أميركا وبريطانيا انسحابهما من المنظمة. بعد ذلك هدأت الأوضاع وعادت بريطانيا وما زالت أميركا خارج الاطار، لكن تأثيرها لم ينتهِ وانتقاداتها للمنظمة لم تتوقف وما زالت تتحدث عن هدر مالي في الادارة. لكن هذا النقد ليس مقتصراً على الولاياتالمتحدة، فهناك نقد من أوساط عديدة منها الدول العربية، إذ اسر إليّ شخص يعرف هذه المنظمة ويعمل قربها بأن العرب آخر من يستفيد من خدمات هذه المنظمة الكبيرة، فمن كل ثلاثة دولارات يدفعها العرب ل "يونيسكو" - كما قال محدثي - يعود عليهم دولار واحد على شكل خدمات ومساعدات فنية. الحديث عن المشكلات الادارية للمنظمة يطول إذ انتعشت فيها الشللية الى درجة كبيرة حتى أصبحت تهدد اسم المنظمة وأعمالها التي لا شك أن بعضها مميز حتى غدا الأمر لمن يريد الاستفادة من خبرتها ان يدقق مرتين في من هو الخبير ومن هو القريب الى الدوائر العليا. منظمة كهذه آن لها أن تحصل على شخص في ادارتها العليا مثل غازي القصيبي، عربي مسلم خبر الادارة طويلا وتمرس في دروبها وهو أول من استخدم في كتابه "حياة في الادارة" تعبير الاداري الهجومي، ويقصد به ذلك النمط الاداري الذي لا يكتفي بردود الفعل السلبية بل يبادر الى صنع القرار وتحمل مسؤولياته. وبناء على تلك النظرة، نجح في كل ما عهد إليه من أعمال ومناصب، كما عرف قيمة الثقافة الانسانية واتساع رقعتها. تولى ادارة هذه المنظمة سبعة من المديرين، ستة منهم جاؤوا من دول كبيرة وواحد فقط جاء من العالم الثالث وثار في عهده ما ثار، الأمر الذي يذكرنا بما حدث مع بطرس غالي عندما تولى أمانة الأممالمتحدة، ولم يحدث في تاريخها الطويل أن تولى ادارتها عربي مسلم. لذلك، هناك معنى حضاري مهم الى جانب قدرات غازي الكثيرة التي تدعو الى اختياره، ففي الوقت الذي يجتاح العالم - خصوصاً الغربي - سيل من الاسلاموفوبيا، التي تربط المسلمين والعرب بكل ما هو سلبي وغير حضاري، نحتاج الى شخصية مثل غازي القصيبي يقدم للعالم وجهاً حضارياً متميزاً قادراً على المواجهة. فالترشيح هنا لا يحمل مصالح شخصية بمثل ما يحمل مصالح وطنية وانسانية تقدم العرب على ساحة مختلفة عما قدموا به عالمياً حتى اليوم. وفي ترشيح غازي القصيبي مدخل آخر لا أظنه أقل من المداخل الأخرى، وهو تكريم لجيل كامل من المتعلمين في بلده، المملكة العربية السعودية، فهي اليوم إذ تحتفل بميلادها المئوي الحديث الذي قاد إليه المؤسس المرحوم الملك عبدالعزيز، مر على مقاعد الجامعات فيها أكثر من جيل، كان من قبلهم تعوزه الفرصة القليلة للتعليم. اختيار غازي القصيبي كرئيس لمنظمة "يونيسكو" هو تكريم لوطن وتجربة صلبة لم تتراجع، رغم الكثير من الضغوط الاقليمية والدولية، عن مسارها الذي ارتأته. وعلى حد تعبير أحد الكتاب المغاربة لم تخضع تجربة المملكة العربية السعودية لا لفتنة اليسار ولا لفتنة اليمين، وهما فتنتان مرتا على وطننا العربي، احداهما انقضت والأخرى لا نزال نعاني بعض رياحها. ولكن علينا أن ندرك أن المرشح أمام غازي القصيبي ليس مرشحاً سهلاً. فهو ينتمي الى احدى الدول الكبرى رغم أن موطنها آسيا، أعني بها اليابان التي تدفع تقريباً ربع موازنة "يونيسكو". وهي ترشح سفيرها لدى فرنسا كويشيرو ماتسورا وهو ديبلوماسي محترف له مؤلفات عن دور الاقتصاد في العلاقات الدولية. وعلى رغم أنه يفتقد خلفية الموهبة الأدبية التي يمتلكها غازي القصيبي إلا أنه مشارك نشط في كل الفاعليات الثقافية التي تقام على مستوى العالم، وهو يعد مرشحاً خطراً إذا لم يتضامن العالم العربي كله خلف "أبي يارا". إلا أن الأمر لا يخضع للتمني، اذ تمنى العديد من الشرائح العربية ترشيح الأخ الدكتور غازي الى هذا المنصب الرفيع الذي يحقق كل ما قلت، لكن الأمر لا يخرج عند امثالي عن التمني، والباقي متروك للسياسيين ومتخذي القرار العرب لمتابعة الأمر بجدية. قامت السعودية بدورها حين قدمت رسمياً خطاب ترشيحها لغازي القصيبي بواسطة طلب قدمه وزير المعارف السعودي وممثل بلاده في المجلس التنفيذي ل "يونيسكو" الدكتور محمد الرشيد، مما يضع قدمي شيخنا الثقافي غازي القصيبي على أبواب هذا المنصب الرفيع الذي ينتظره فيه الكثير من المعارك والكثير الأكثر من الأعباء. والمطلوب هو تضامن عربي كي تتجمع الأصوات ولا تتفرق أيدي سبأ كما تعودنا، وهنيئا مقدماً لشاعرنا القدير بمنصب هو قادر عليه. * رئيس تحرير مجلة "العربي" الكويتية.