بشيء من المرارة لا يمكن مداراته كتب الدكتور غازي القصيبي عن معركة اليونسكو. وتحت عنوان" نجح المرشح .. وسقط العالم الثالث" في صحيفة الحياة الصادرة يوم 27 سبتمبر 2009 جاءت قراءة القصيبي أشبه ما تكون بنصائح تكتيكية متأخرة مع تأكيد دور المصالح والطابور الخامس في حرمان العرب من هذا المنصب الرفيع. الدرسان الأساسيان اللذان استخلصهما المرشح العربي الدكتور غازي القصيبي في عام 1999، هما: لا تصدق ما تسمع من وعود، والدرس الثاني هو أن المعركة الحقيقية لا تبدأ مع انطلاق الحملة بل مع ميلاد كل ترشيح . يتحدث أيضا عن انتخابات 1987 التي جاءت بالمرشح الاسباني فريدريكو مايور لتعود اليونسكو إلى الحظيرة الغربية منبرا للقيم الليبرالية الغربية ابتداء بالديمقراطية وانتهاء بالمساواة بين الجنسين!! وان الحديث عن دول أوروبية مؤثرة تقف مع مرشح عربي مسلم هو حديث خرافة!! .. ويقول "إن ما حدث ببساطة متناهية وأرجو أن يعذرني عليها الفلاسفة الأشاوس المتعمقون!! هو أن العالم الأول وقف كل مع مرشحه، أما العالم الثالث فتردد وتخاذل..وتبين أنه يحوي طابورا خامسا حسم المعركة!!". إذا كانت أسباب الفشل جاءت على ألسنة الذين برروا خسارة المرشح العربي بمؤامرة صهيونية أمريكية أوروبية، إلا أنها تستعيض عنها هنا بالحديث عن طابور خامس كان وراء الفشل، وهي تراهن على مجموعة افريقية لضمان صوتها من خلال علمية تكتيكية لا رؤية تصل إلى عمق أزمة العرب مع منظمة ثقافية اعتبارية لها نسقها الخاص، ورؤيتها الخاصة للمرشح، والبيئة الثقافية التي جاء منها.. ومهما بلغت حدة التحالفات لن يكون من بين نصائح تجاوز عقباتها البحث عن طابور خامس لتعلق عليه شماعة الإخفاق. المؤامرة والطابور الخامس والمصالح والصراع حولها عناوين تتأكد في مقال كهذا لاستبعاد العرب من قيادة اليونسكو، إلا أن هذا لم يكن كافيا ليحول دون وصول شخصيات عربية لمناصب في هيئات دولية، هي أكثر خطورة وأهمية وتأثيراً في المصالح والصراع حولها. الدكتور محمد البرادعي أعيد انتخابه ثلاث مرات لرئاسة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبطرس غالي وصل إلى منصب الأمين العام للأمم المتحدة، ومن داخل اليونسكو نفسها وصل السنغالي المسلم أحمد مختار أمبو ليبقى ثلاثة عشر عاما (من 1974 إلى 1987). لماذا لم يكن الحديث حديث خرافة حينها. سيقال إن الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي هو من قدم أمبو للمنظمة وهذا أيضا غير كافٍ. هل توقف صراع الغرب مع العرب على منصب الأمين العام لمنظمة معنية بالثقافة والتربية والعلوم ليتحالف هذا العالم ضد مرشح عربي لأنه عربي أو مسلم ؟؟ وإذا كان هذا التحالف حدث فلماذا حدث؟ هل هو موقف من مرشح لأنه يحمل اسما عربيا أو مسلما؟ هل يمكن أن نجيِّر نتائج معركة يفشل فيها مرشح عربي لنقول إن العالم الغربي يريد منظمة ثقافية للدفاع عن الليبرالية الغربية من الديمقراطية إلى المساواة بين الجنسين فقط... ألا يعني هذا أيضاً أن المرشح العربي يمكن أن يكون أيضاً ضد الديمقراطية حتى لو نفض يديه من تهمة القبول بالمساواة بين الجنسين!!. وماذا في مقدور مرشح عربي لو وصل إلى هذه المنظمة أن يصنع في حقوق إنسانية قاتل الغرب طويلا من أجلها!! ثم من هي هذه المرشحة البلغارية التي جاءت من دولة أوروبية ريفية. إنها السيدة إيرينا بوكوفا، التي كانت ضمن القيادات الشبابية التي انخرطت في حركة مقاومة الحكم الشيوعي الشمولي في بلغاريا في تضامنها مع دُعاة الحُرية وسجناء الرأي والضمير، حتى سقط في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وهي ممثلة بلادها في المنظمة منذ ثماني سنوات. ألا يمكن أن تكون هناك معايير أخرى للتحالف الأوروبي لتقديم المرشحة البلغارية سوى ما توحي بهذه الرؤية التي تريد أن تجعل العرب دائما ضحية مؤامرة دائمة ومتصلة ومستديمة، وهي سبب هزائمهم وفشلهم الدائم. أما أن تقف دول أوروبية مؤثرة مع مرشح عربي أو مسلم فهو حديث خرافة، فهو أيضا حكم غير منصف. لان الغرب الذي يرى العرب يتحالفون مع مرشحهم لأنه فقط عربي لا يلومونهم على هذا التحالف ولا يشنعون عليهم لكننا أيضا نرى أن هذا الغرب - الذي تجمعه قيم مشتركة - يجب أن يكون منصفا أكثر لدرجة أن يتخلي عن مرشحه ليتحالف مع العرب!! الأمر الآخر لماذا لم يتحالف الغرب في أعلى هيئاته العلمية والأكاديمية ليستبعد اسماً عربياً أو مسلماً، ومنح أشهر جائزة في العالم (جائزة نوبل) لمرشح عربي (أحمد زويل في الكيمياء ونجيب محفوظ في الأدب). هل هذا الغرب أيضا ضد أي مرشح لأنه عربي أو مسلم طالما حقق هذا المرشح ما يستجيب لشروط الجائزة أو أحقيتها. أما أن يكون المرشح العربي خسارة للمنظمة فكم كنت أود أن نكون أكثر تواضعا وإدراكا لمعنى هذه الخسارة التي يتحدث عنها الدكتور القصيبي!! ماذا كان بإمكان أي مرشح عربي بمقدوره أن يصنع أكثر مما صنع الذين تعاقبوا على قيادتها!!. منظمة العلوم والتربية والثقافة لها خصوصية كبيرة، حيث يعتبر الكثيرون أن المعركة حولها هي معركة حضارية في المقام الأول، وهو ما أكدت عليه المرشحة النمساوية بينتو فيريرو فالدنر عندما أعلنت انسحابها وقالت: "إن القيم الأخلاقية ومُثل اليونسكو هي على المحك خلال هذه الانتخابات". ماذا يمكن أن يقدم مرشح عربي في معركة كهذه؟! الحديث عن طابور خامس حسم المعركة أو الحديث عن مؤامرة صهيونية أمريكية أوروبية هو حديث يمكن فهمه ضمن إطار حسم نتائج اقتراع وفق رؤية الأعضاء الفاعلين في هذه المنظمة ودورها، لكنه لا يجب أن يكون غرسا في ذاكرة العرب الذي يجب أن يفهموا أيضا أن دول العالم الكبرى ليس جمعية خيرية، والعلاقة مع هذه الدول ليست مثل علاقات العرب ببعضهم عند تقديم ترشيحات تحسمها القيادات وحدها. من الخرافة أن يكون الحديث عن دول أوروبية مؤثرة تقف مع مرشح عربي مسلم لأنه فقط عربي أو مسلم، لكن الأسوأ من هذا غرس هذا التصور باعتبار انه تصور نهائي حاسم قاطع رغم أن الشواهد تؤكد أن هؤلاء يملكون من أدوات الإنصاف والتقدير لانجاز الإنسان أياً كان اسمه أو قوميته أو دينه أكثر مما يملك العرب. لن تقف الدول الأوروبية مع مرشح عربي أو مسلم لأنه عربي أو مسلم هذه حقيقة، لكنها حتما تريد أن تحافظ على ذاكرة منظمة هي صنعتها. وليس حقيقياً أن المرشح لا يهم تاريخه أو إنجازه أو أن الدولة التي قدم منها لا تعني شيئا في نتائج التصويت. وإذا كان الوزير والسفير والأديب غازي القصيبي يرى أن العرب لم يبذلوا جهدا كبيرا لمنع ظهور مرشحين جدد ولا جهدا كافيا في محاولة لتنظيم صفوف المرشحين فهذا نوع من النصائح التكتيكية في نهاية حفلة ترشيح.. ..وكان الأولى أن يقال العرب يتواضع مشروعهم الثقافي وتتراجع جهودهم إلى درجة أنهم اليوم يقفون في ادني سلم الانجاز الحضاري. للعرب والمسلمين منظمات شبيهة أين هي في سلم التطور والانجاز، أين هي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي تكاد تحتضر من قله الاهتمام والعناية والتمويل؟ أين هي المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم التي تحولت إلى احتفالات بروتوكولية وميزانية توظف للزيارات والعلاقات العامة. الهروب من المسؤولية الذاتية للبحث عن طابور خامس مشكلة سنظل نعاني منها في قراءة المثقفين لمشهد الإخفاق، والهروب من المسؤولية عوضاً عن معاودة قراءة أسباب الفشل ومعالجة دواعيه، والعودة إلى فكرة المؤامرة من أجل إجهاض وصول عربي لمنصب قيادي في منظمة ثقافية لن يقود إلى فهم مشكلتنا الحقيقية مع أنفسنا ومع العالم من حولنا. أما أن نعزي أنفسنا بأن نرمي مشاكلنا وراء ظهورنا، فهي أيضا تجسيد للتجاهل وترويج للامبالاة.. لا معاودة البحث في أسباب الفشل الحقيقية... إلا إذا كان الطابور الخامس والمؤامرة الدولية وراء كل إخفاقاتنا وفشلنا الدائم وتعثرنا الشامل!!.