مستوى العنف الذي عبر عنه آلاف من الشباب السوريين خلال تظاهرهم في شوارع دمشق في 19 الجاري ضد "العدوان الوحشي" الاميركي- البريطاني على "الشعب العراقي الشقيق"، كان مفاجئاً للديبلوماسيين والمسؤولين السوريين الامنيين والسياسيين. ذلك ان شوارع دمشق لم تشهد مظاهرة كهذه منذ عقود. وبينما يقول مراقبون ان اخر مظاهرة عنيفة حصلت بعد عدوان 1967 عندما احرق المتظاهرون المركز الثقافي الاميركي، يشير اخرون الى ان دمشق شهدت مظاهرة مماثلة بعد الاجتياح الاسرائىلي للبنان في العام 1982، عندما قام شبان بانزال العلم الاميركي من مبنى السفارة لتمزيقه واحراقه. لكن خصوصية المظاهرة الاخيرة تأتي من عدد الذين شاركوا فيها اولاً، ومن الحدة التي وصل اليها المتظاهرون ثانياً، ومن الظروف التي جاءت بها ثالثاً. وكان مقرراً ان يخرج طلاب المدارس والجامعات في مظاهرات سلمية ليتجمعوا في وسط دمشق ل"التنديد بالعدوان الاميركي - البريطاني" عبر لافتات كتب عليها "تسقط بريطانيا واميركا، تعيش الامة العربية" و"تسقط اميركا ويحيى العراق الصامد" مع حمل صور الرئيس حافظ الاسد وعلمي سورية وحزب "البعث" الحاكم في دمشق وبغداد. واختلفت تقديرات المراقبين لعدد المشاركين. فالصحف الرسمية كتبت ان "مليون شخص خرج للتعبير عن رأيه المعارض للعدوان"، وقدر ديبلوماسيون اميركيون وبريطانيون عبر شاشة التلفزيون العدد ب "بضعة الاف". لكن العدد الاقرب الى الواقع هو ان اجمالي عدد المتظاهرين خلال ذاك اليوم وبجميع مراحله يتراوح بين مئة ومئتي الف ذلك ان عدد طلاب سورية في المراحل كلها يبلغ نحو اربعة ملايين وان اكثر من ربعهم يدرس في العاصمة. بالتالي فان المظاهرة جمعت ما حصل في مظاهرتي 1967 و1982، اذ ان المتظاهرين لم يكتفوا بانزال العلم الاميركي من مبنى السفارة لتمزيقه واحراقه، بل انهم اقتحموا مبنى السفارة ومنزل السفير رايان كروكر وصولاً الى حيث كانت موجودة زوجته كريستين، واخرجوا الاثاث والملفات والمشروبات ورموها في الشارع. كما ان المتظاهرين اقتحموا المركز الثقافي ومركز تعليم اللغة البريطانيين، اضافة الى رمي الحجارة والاوساخ على المركز الثقافي الاميركي ومدرسة تعليم اللغة. وكان واضحاً ان الجميع فوجئ ب"العنف"، اذ ان قوات شرطة كانت قليلة العدد في صباح المظاهرة. وعندما بدأ المتظاهرون باقتحام مبنى السفارة الاميركية وصولاً الى القسم القنصلي داخلها، وقيام قوات "مارينز" اميركي برمي ثلاث قنابل مسيلة للدموع وسقوط متظاهرين مغمى عليهم، طلبت قوات الشرطة والامن النجدة من آخرين. وريثما وصلت التعزيزات كان المتظاهرون في وسط منزل السفير. وبين الكرّ والفرّ بين الامن والمتظاهرين، انتبه بعضهم الى وجود مبان بريطانية، فدهمها مئات منهم واخرجوا كل الوثائق واجهزة الكمبيوتر الى الشارع. وكلما اشتد ضغط قوات الامن على المتظاهرين كانوا يرددون "الى الابد، الى الابد يا حافظ الاسد". وكي يوضحوا هويتهم رفع اهالي الطبقات الاخرى للبنائين اللبريطانيين، صور الرئيس الاسد. واغتنم احد الشبان تركيز العيون والجهود على المركزين البريطانيين، واخذ قضيب حديد وحطم عدسة تصوير وباباً كبيراً في السفارة الاميركية. تكتسب المظاهرة اهميتها من توقيتها، ذلك ان ديبلوماسيين اعتبروها موشراً سورياً واضحاً الى "مدى الانزعاج" من سياسة الادارة الاميركية تجاه عملية السلام و"سياسة المعايير المزدوجة" التي تتبعها واشنطن. وقال مصدر سوري: "كان مفترضاً ان توجه صواريخ الرئيس بيل كلينتون الى اسرائىل بحكومة بنيامين نتانياهو التي ترفض السلام والتزام قرارات مجلس الامن"، مشيراً الى ان الضربات العسكرية ضد العراق جاءت بعد "فشل" زيارة كلينتون الى اسرائىل لاستمرار تنفيذ اتفاق "واي ريفر". ويرى محللون اخرون في المظاهرة مؤشراً اخر ل "قلق سوري على مصير الشعب العراقي بعد سنوات من الحصار، وانحسار فسحة الامل امامه"، اضافة الى توقيت الضربات عشية شهر رمضان المبارك. بينما يلفت آخرون الى "انزعاج سوري" لعدم وجود اي اتصال رسمي اميركي - بريطاني عالي المستوى مع دمشق في شأن "التغيير في العراق"، ذلك ان المحادثات التي اجراها وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية ديرك فاتشيت الاسبوع الماضي تركزت على عملية السلام، مع ان فاتشيت كان اجتمع ومسؤول الشرق الاوسط في الخارجية الاميركية مارتن انديك قبل اسابيع مع معارضين عراقيين للتنسيق في شأن التغيير. وانعكس الموقف الشعبي - التظاهري في موقف المسؤولين السوريين والتغطية الاعلامية. واضافة الى انتقاد رئيس مجلس الشعب البرلمان السيد عبدالقادر قدورة "العدوان الوحشي وغير المبرر" خلال افتتاحه الدور التشريعي السابع، بث التلفزيون الرسمي مرات عدة صور لثلاثة شباب يعتلون مبنى السفارة الاميركية ويمزقون العلم الاميركي. ووصفت صحيفة "تشرين" الضربات الاميركية - البريطانية ب "القصف الصاروخي الوحشي"، بينما ذكرت "الثورة" الحكومية ان التهديد باستخدام القوة مجدداً يستهدف "تدمير ماتبقى من قدرات العراق". ونددت "البعث" الناطقة باسم الحزب الحاكم، ب "سياسة المعايير المزدوجة وباستمرار احتلال فلسطين". رد الفعل الديبلوماسي شمل رد الفعل الاميركي والبريطاني قيام السفير رايان كروكر وباسيل ايستوود كل على حده، بالاجتماع الى وزير الخارجية فاروق الشرع وقدم "احتجاج رسمي" على ما حصل لبعثتهما الديبلوماسيتين لأن ذلك يقع على "عاتق سورية"، مشيرين الى نيتهما "تقديم طلب رسمي للحصول على تعويضات مالية عن الاضرار التي لحقت". واستبعد ديبلوماسيون ان يؤدي ذلك الى "قطع العلاقات الديبلوماسية" بين دمشق وكل من لندنوواشنطن. لكن الخارجية الاميركية اصدرت بياناً تضمن "وقف منح تأشيرات للسوريين الى اميركا" رداً على دخول المتظاهرين مبنى القنصلية. كما ان المسؤولين الامنيين في السفارتين "سيعيدون النظر في النظام الامني" لكل سفارة. وجاء ذلك بعدما اكدت وزارة الخارجية السورية "حرص السلطات الامنية على توفير الحماية اللازمة لكافة البعثات الديبلوماسية والقنصلية والمؤسسات الدولية المعتمدة في سورية"، وان الخارجية "اسفت للاضرار التي لحقت بماني وممتلكات البعثتين الاميركية والبريطانية خلال المظاهرات التي اندفع فيها مئات الآلاف من الطلاب والمواطنين معبرين عن احتجاجهم على مايتعرض له العراق ومطالبين بوقف العدوان على شعبه"