زيارة الرئيس كلينتون غزة اليوم زيارة تاريخية بذاتها، حتى لو لم تسفر عن أي نتائج مهمة سلباً أو ايجاباً. الزيارة ليست اعترافاً أميركياً ضمنياً بدولة فلسطينية مستقلة، إلا أنها خطوة على الطريق، والمفارقة فيها ان الرئيس الأميركي سيلقى من الفلسطينيين استقبالاً حاراً على الرغم من انحياز بلاده الكامل الى اسرائيل، وسيلقى استقبالاً فاتراً أو عدائياً من الاسرائيليين، مع أنهم ما كانوا استطاعوا اقامة بلد لهم من دون الدعم الأميركي السياسي والاقتصادي والعسكري المستمر. على الورق، كما تقول العبارة الانكليزية، سيصل الرئيس كلينتون اليوم الى غزة في طائرة هليكوبتر لحضور جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني تلغى فيها تلك الفقرات في الميثاق الوطني الفلسطيني التي تدعو الى ازالة اسرائيل. هذه الفقرات الغيت أو عدلت قبل أكثر من سنتين ونصف السنة، واقرّت حكومة العمل في حينه ان الميثاق عدّل. ثم جاء ائتلاف ليكود برئاسة بنيامين نتانياهو ليعيد نبش القضية. وقد تجاوب أبو عمار مع الالحاح الأميركي وبعث برسالة الى الرئيس كلينتون في 22 كانون الثاني يناير الماضي تؤكد تعديل الميثاق، وهذا أصلاً سبقه الزمن فهو وضع أصلاً سنة 1964، واعيدت كتابته سنة 1968 في أوضاع لم تعد لها علاقة البتة بما نحن فيه الآن. غير أن نتانياهو يصرّ اليوم على التعديل مرة أخرى، بل يصرّ على ان يجرى التصويت لا برفع الأيدي، بل بمناداة اسم كل عضو في المجلس ليعلن موقفه، حتى يتأكد من أن غالبية الثلثين المطلوبة الغت فعلاً المواد التي تعترض عليها اسرائيل. هذا مستحيل عملياً، فالأرجح ألا يحضر ثلثا أعضاء المجلس الوطني الجلسة أصلاً. ثم ان الجلسة لن تكون في الواقع جلسة خاصة للمجلس الوطني، بل اجتماعاً يضم فعاليات مختلفة، نسائية ونقابية وغيرها، مع ضيوف من الوجهاء وكبار الشخصيات. هل يستحق تعديل الميثاق هذه الضجة المستمرة؟ اتفاقات أوسلو نفسها تضمن حق اسرائيل في الوجود، وهو حق اعترف به الفلسطينيون سنة 1988، عندما أعلنوا أيضاً حقهم في دولة مستقلة عاصمتها القدس. غير أن نتانياهو يقول انه إذا أعلن أبو عمار مثل هذه الدولة، فالاتفاقات القائمة كلها تصبح لاغية، مع حق اسرائيل في ممارسة رد مناسب. نتانياهو يهدد السلطة الوطنية بحرب، وهي حرب ترحب بها معه الفصائل الفلسطينية المعارضة لمعاهدة السلام، فما يجمع المتطرفين من الجانبين، أكثر كثيراً مما يجمع كل فريق منهم مع وسط الحركة السياسية، ان في اسرائيل أو بين الفلسطينيين. والرئيس كلينتون يعرف انه حتى إذا استطاع منع تدهور الوضع الآن، فهو قد لا يستطيع منع انفجار في أيار مايو القادم. غير أن المعلق السياسي مثلنا لا يحتاج ان ينظر بعيداً، وانما ينتظر قليلاً، فحكومة نتانياهو قد تسقط قبل نهاية الشهر، والرئيس كلينتون قد يعزل قبل أيار. وهكذا يبرز أبو عمار بين الأبطال الثلاثة للدراما الحالية، وهو الأقوى أو الاثبت، مع أنه الأكبر سناً والأضعف صحة، ومع أنه يمثل طرفاً محاصراً أمله بمخرج يتوقف على بلد هو الحليف الأول في العالم لعدوه التاريخي. مع ذلك تظل زيارة الرئيس كلينتون تاريخية فهي المرة الأولى التي يطأ فيها رئيس أميركي أرضاً فلسطينية، وهي ستثبت الرئيس عرفات على طريق السلام، بقدر ما تثبت الالتزام الأميركي بدعم الفلسطينيين لاقناعهم بفوائد السلام. ويظل هذا صحيحاً حتى ونحن نعرف ان الرئيس الأميركي اعتاد ان يفرّ من مشاكله الداخلية الى الخارج، ففي آب اغسطس الماضي انفجرت قضية مونيكا لوينسكي نهائياً في وجهه، فطار الى موسكو وعقد مؤتمر قمة مع الرئيس بوريس يلتسن مع أن من الواضح ان هذا كان مريضاً غير مكتمل الوعي. وهو يزور اسرائيل والأراضي الفلسطينية هذه المرة، والكونغرس الأميركي يدرس عزله بسبب فضيحة مونيكا لوينسكي، فلعل الفلسطينيين يستفيدون من حاجة الرئيس ان يبدو "رئاسياً" قادراً على اتخاذ القرار. هل يحدث هذا؟ الأفضل أن ننتظر لنعلق على ما حدث بدل أن نتكهن بما سيكون، فكل الاحتمالات وارد، والرئيس كلينتون قد لا يعود من زيارته التاريخية بما هو أكثر أهمية من صورة له مع هيلاري وتشيلسي في كنيسة المهد في بيت لحم.