جورج سوروس كان ضيفاً على احدى نشرات اخبار التلفزيون البريطاني. هذه المرة جاء زائراً لندن لا للتأثير في علاقة عملتها بسلة العملات الأوروبية، الأمر الذي لا يستدعي السفر والانتقال في هذه الأيام، بل لغرض آخر: انه الترويج لكتابه الذي سيصدر قريباً عن "أزمة الرأسمالية الكونية" دار ليتل براون. أكثر من هذا، يبدو ان سوروس، البليونير والمضارب الأشهر في العالم الذي ترجّحت نشاطاته ما بين آسيا وأوروبا وروسيا، ينبّهنا في كتابه هذا إلى خطورة ما يفعله هو، فكأنه يطالب الحكومات بالتدخل واللجم لمنعه من فعل ما يفعل: "أرجوكم إمنعوني من أن أكون أنا نفسي"، بحسب صياغة جيريمي باكسمان. فسوروس لا يضمن نفسه الأمّارة بالسوء ويريد، بالتالي، وضع قوانين تحد من سوئها وقدرتها على اتيانه. إذن سوروس المضارب ضد سوروس الكاتب الذي تتلمذ على كارل بوبر وعرف ان لتماسك المجتمعات قواماً وشروطاً وضوابط. وأهمية الكتاب، بحسب النقاد، انه يضرب الريغانية - الثاتشرية، أو اصوليي السوق من بيت أبيهم. فهو يكشف عيوب علاجاتهم الشافية ممثلةً في الانفتاح الكامل للأسواق وترك حركة الدفوق المالية بلا روادع. ويبدو انه في توزيع حصص المسؤولية في التسبب بالأزمة الآسيوية، يجزم بأن أدوار النظام المالي العالمي التي تسهل فيها المضاربة وتنكشف امامها الدول والمجتمعات، كانت أكبر من أدوار الآسيويين انفسهم. وكلام سوروس جزء من مزاج جديد سبق ان عبّر عنه الرئيس السابق للاحتياطي الفيديرالي في الولاياتالمتحدة، بول فوكر. فالأخير أيضاً رأى، بدوره، في محاضرة القاها في جامعة جون هوبكنز في واشنطن، ان الازمة الآسيوية ناتجة عن منطق النظام المالي العالمي نفسه. ولا تفعل شركة بوينغ، إحدى أهم المؤسسات العالمية المعولمة، غير تأكيد هذه التقديرات حين تعلن ان الأزمة أكثر جدية مما اعتقدت قبلاً، وتلجأ إلى تسريح 50 ألف عامل لديها. هذا بطبيعة الحال لا يعني ان بديل الرأسمالية من خارجها. وقد كان سقوط الشيوعية الدليل الأخير على ذلك، فكيف وأن القوى التي تتحدى الرأسمالية الغربية غير موجودة أصلاً أتمثلت في أحزاب شيوعية أو في تنظيمات نقابية فاعلة؟ وكيف وأن الرأسمالية ما ونت، منذ نشأتها، تقدم البرهان بعد البرهان على قدراتها على التكيّف والتجدد الذاتي؟ مع ذلك، وفي ضوء ما يحدث في الاقتصاد والسياسة، وما يقال في السجالات المتواصلة، لا بد من وضع حد للرأسمالية الأصولية التي استنفدت أغراضها وباتت اعباؤها على البشرية ما لا تطيق اكتاف الملايين حمله. وغاية كهذه لا تزال تنتظر انجاز مهمتين أساسيتين مطروحتين، بتفاوت، على قوى يسار - الوسط الأوروبي جميعاً: الأولى هي المضي في مصالحة التقليدين الليبرالي والاشتراكي الديموقراطي، والثانية هي المضي في مصالحة التقليدين الأوروبي والأميركي. أما المهمة الثالثة الملازمة بالتعريف، فهي التوصل الى خطوات تنفيذية فعالة لمراقبة جورج سوروس المضارب، وايجاد الوسائل العملية لتنفيذ رغبات جورج سوروس المثقف.