هذه حقائق ارجو لها ان تسدّ عدداً من الثغرات في المقال المنشور للسيد "فرانسيس دينغ" في صفحة "افكار" في "الحياة" بتاريخ 18/11/1998 تحت عنوان "المجاعة الفظيعة سبب كاف لوجوب انهاء الحرب الأهلية في السودان". ولعل تلك الثغرات والثقوب تسربت الى مقال السيد "فرانسيس" بسبب تجاهل المقال عدداً من حقائق الواقع الاجتماعي والتاريخي والسياسي للسودان عامة ولمشكلة جنوب السودان خاصة. اولاً: تسمية ما يدور في جنوب السودان بالحرب الأهلية ومحاولة مطابقته مع الحالة "الرواندية" كما ورد في آخر المقال هو مجانب للحقيقة، وذلك بالنظر الى اسباب بداية اندلاع التمرد في جنوب السودان في العام 1955 وما تبعه من آثار اجتماعية وسياسية الى يومنا هذا. فقد اندلعت المشكلة في شكل تمرد لمجموعة في وحدة عسكرية في جنوب السودان ثم والى عدد من السياسيين الجنوبيين ذلك التمرد بمطالب سياسية استجابة لها اتفاقية "اديس أبابا" في العام 1972. فلم تنشأ الحرب في جنوب السودان نتيجة لخلافات عرقية في البدء، كما أن تطورها ظلّ على مرّ السنين محصوراً ومتمثلاً في المعارك بين القوات الحكومية والمتمردين، ولم تتعدّ الى عنف بين المدنيين او تصفية جسدية او تطهير عرقي سواء للشماليين من قبل الجنوبيين او العكس. ولئن كانت هناك حوادث من هذا القبيل فلا شك ان السيد فرانسيس يدرك انها لا تتجاوز حدود طبيعة العلاقات بين القبائل في السودان شمالية او جنوبية في ما بينها او بين المجموعتين. والاحداث المتفرقة التي تحدث انما هي استغلال من حركة "قرنق" لخلافات القبائل حول المرعى. كما ان السمة الاجتماعية الأبرز لآثار التمرد الحالي انما تتمثل في نزوح سكان جنوب السودان شمالاً واستقرارهم هنالك. والسيد فرانسيس هو واحد من اكثر الناس ادراكاً لهذه الحقائق، وذلك بالرجوع الى الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي ظل يتمتع به سكان المنطقة التي ينتمي اليها هو شخصياً، في فترة التمرد الأول، ثم من خلال وقوفه على اوضاع النازحين من الجنوب الى الشمال ابان زيارته الى هنالك ممثلاً الأمين العام للأمم المتحدة خلال الأعوام الاخيرة. ثانياً: ان تقسيم السيد فرانسيس دينغ السودان الى "الشمال العربي المسلم والجنوب الذي تعمره القبائل الافريقية ويغلب المسيحيون على قيادته" على حد تعبيره، فيه كثير من عدم الدقة بالنظر الى حقائق الاجتماع والجغرافيا. فپ"شمال السودان" اغلبيته ليست عربية اذا ما اخذنا بالمقياس العرقي الصرف. كما ان العربية في السودان خاصة وفي افريقيا عامة ليست سمة عرقية بقدر ما انها سمة ثقافية تتراوح بين كونها وعاء لغوياً لثقافات اخرى متعددة وبين انها ممارسة ثقافية تتعايش مع الثقافات الاخرى متميزة احياناً ومتداخلة احياناً اخرى. ولئن كانت اللغة العربية قد صارت من الأدوات المطلوب تملكها من المواطن في السودان حتى يتمكن من نصيبه في قسمة الثروة والسلطة، فليس ذلك بمستغرب، فقد كانت اللغة الانكليزية يوماً أداة اساسية لنيل الافراد نصيبهم من تلك القسمة، وذلك بعد ان ازاحت اللغة العربية بسلاح القوة والاستعمار. اما انتشار اللغة العربية فنتاج طبيعي لتطورات اجتماعية وثقافية تلقائية. ولو جاز لنا ان ننظر الى العربية في السودان كعرق، فالحقيقة الواقعة هي ذلك التمازج العرقي التلقائي او القائم على مصالح حياتية بين المجموعة العربية وبين تلك التي يطلق عليها السيد فرانسيس اسم "الافريقية". ولعله شخصياً من اكثر الناس ادراكاً لذلك الواقع بحكم انتمائه لواحدة من مناطق التماس السكاني في السودان. ولنستطرد هنا لنثبت تلك الحقيقة الاكاديمية التاريخية والجغرافية المتمثلة في ان "افريقيا" انما هي "أرض" و"وطن" وليست "جنس" او "عرق". وهذه الحقيقة لا تحتاج الى كثير عناء لمن يجري مسحاً سكانياً واجتماعياً وثقافياً لافريقيا في شمالها وشرقها وغربها ووسطها وبدرجة معقولة ومعتبرة في جنوبها بالنظر الى ما شهده الجنوب الافريقي من تطور في التركيبة السكانية وفي العلاقات بين المجموعات السكانية اجتماعياً وثقافياً وسياسياً. اما اشارته الى غلبة "المسيحية" على القيادات الجنوبية فحقائق الاجتماع والسياسة تقول ان المسيحية لم تكن يوماً محوراً يتكئ عليه السياسيون الجنوبيون - سواء في مستوى التمرد او مستوى الممارسة السياسية المدنية - دعك من ان يتبناها السكان مرتكزاً للاختلاف مع بقية سكان السودان...! ولعل السيد "فرانسيس" الكاتب الأديب يدرك ان المحتوى والوعاء العقائدي والثقافي لسكان جنوب السودان انما هو التقاليد وتراث الاجداد، والتي هي ايضاً سمة مشتركة لسكان السودان جميعاً، مع درجات من الاختلاف في مدى بروز تلك السمة. ثالثاً: يقول السيد فرانسيس دينغ في مقالته ان الحرب قد استؤنفت في العام 1983 بعدما ألغت الحكومة من جانب واحد اتفاقية السلام. اشارة الى اتفاقية اديس أبابا في العام 1983 التي تمتع بموجبها الجنوب بحكم اقليمي ذي سلطات تشريعية وادارية واسعة. وهذا القول فيه الكثير من تبسيط الأمور وتجاوز حقائق التاريخ القريب. فالحقيقة هي ان مجموعة سكانية واحدة استأثرت بالسلطة في جنوب السودان عقب اتفاقية "أديس أبابا". ولم يرض ذلك المجموعات الاخرى التي تظلمت الى الحكومة المركزية وطالبتها بصيغة حكم في اطار "الاتفاقية" بتقسيم الجنوب الى ثلاثة اقاليم تتيح لهم ان يتمتعوا بحكم انفسهم. وربما تكون الحكومة المركزية قد وجدتها فرصة لاضعاف تلك المجموعة المستمتعة بالسلطة، ولكن تبقى حقيقة ان ما يذهب به السيد "فرانسيس" الى مستوى تسميته بالغاء الحكومة للاتفاقية انما كان مرده الى عوامل وأسباب تتعلق بطبيعة العلاقة بين المجموعات السكانية في الجنوب والتي ربما تمتد جذورها الى آماد بعيدة في التاريخ. ولئن كان البعض من تلك المجموعة اتخذ من تقسيم الحكومة المركزية جنوب السودان الى ثلاث وحدات ادارية ذريعة للتمرد الحالي، ثم التحقت مجموعات جنوبية اخرى لأسباب سياسية او أيديولوجية في بعض الاحيان، فان ذلك التحالف لم يدم طويلاً بسبب تحكم فئة واحدة بالآخرين. كما ان تلك المجموعة التي انفردت بالسيطرة على حركة التمرد لم تسلم من التحلل حينما تكشف للعقلاء منهم ان حركة التمرد لم تعد تمثل حتى ادنى تطلعاتهم القبلية، وانها قد تحولت الى محرقة لأبنائهم في ميدان الحرب ووبالا اجتماعياً واقتصادياً على اهلهم بالداخل، كما أشار الى ذلك السيد فرانسيس في مقالته بقوله وفيما اكدت الحركة الشعبية لتحرير السودان قدرة عسكرية مثيرة للاعجاب، الا انها اضعف من ان توفر الحماية لشعبها وأفقر من أن تقدم اليهم مساعدة مادية. رابعاً: اما عن تقرير المصير لجنوب السودان، فيقول السيد فرانسيس ما نصه: "وطبقاً لتقديرات الجيش الشعبي لتحرير السودان يتحول الانفصال خياراً حيوياً في حالة واحدة: اذا اضحت الحركة تسيطر سيطرة تامة على الجنوب، وحتى اذا حصل ذلك فان السلطة الممسكة على زمام الامور في الجنوب ستكون بحاجة الى ان يضمن لها المجتمع الدولي الاعتراف". ومن ثمّ فان السيد فرانسيس يطلب ان يحصل وسطاء "ايغاد" وشركاؤهم الدوليون على التزام قوي من حكومة السودان. ونحن هنا لا نريد ان نكرر ما صار بديهة من ان حركة التمرد بقيادة جون قرنق لم تعد تمثل ارادة او تطلعات اهل الجنوب بعد ان صارت اداة منفذة لأجندة قوى اقليمية وعالمية. وما طلب حكومة زيمبابوي من ممثل حركة قرنق الذي ظلّ يمارس نشاطه رسمياً في هراري منذ الثمانينات المغادرة في هذا الشهر الا احدى نتائج ذلك. وكأننا أيضاً بالسيد فرانسيس دينغ، او قل حركة التمرد، انما تفترض ان فصول ما بعد "اتفاقية أديس أبابا" ستعيد نفسها وان الفئة نفسها التي استمتعت بالحكم والسلطة هي التي بالضرورة ستحكم الجنوب، وذلك حينما يقول "وحتى اذا حصل ذلك فان السلطة الممسكة بزام الامور في الجنوب...". فنحن لسنا في حاجة لكل ذلك التحليل والتعليل ومن ثم طلب ضمان تنفيذ ما ينتج عن استفتاء اهل الجنوب، اذ ان الحكومة السودانية هي التي بادرت بتقديم ذلك المشروع، كما انها اعلنت قبولها لحضور مراقبين دوليين وبالطبع فان "ايغاد" و"شركاءها" هم الأولى بذلك. وأخيراً فلئن كان السيد فرانسيس دينغ بذل جهدا في مقالته لتحليل الواقع عن جنوب السودان من منظور غلب عليه السياسي، الا اننا نحن في السودان الذين نعرف تجربته في مجال التناول الادبي الاجتماعي ننتظر منه دوراً اكبر وأشمل من ذلك. وهو كذلك لا شك صاحب ادراك للواقع الاجتماعي الجديد للأفراد والمجموعات في المجتمع الجنوبي الذي صار يشهد تغييراً وتبلوراً منذ العام 1983، سواء على مستوى العلاقة مع الأرض والبيئة او على مستوى العلاقة بين افراد القبيلة الواحدة او بين المجموعات القبلية الجنوبية. وكذلك تطور وتحور العلاقة مع الشمال وتداخل المصالح وتعقدها على الاصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لكل ذلك فالمنتظر من مثل السيد فرانسيس دينغ الا يرجع الى مربع التبسيط السياسي للحالة الجنوبية وانما ان يسهم بخطوات تعترف بالواقع الجديد وتأخذه في الاعتبار، مستعيناً في ذلك بما اكتسب من تجربة في السودان وما نال من مكانة في المؤسسات الدولية. * ديبلوماسي سوداني في الكويت