تحمل الرياح المارة فوق صحراء الجزيرة العربية ذكرى ثلاثة قرون من الأصالة، هنا حكاية أجدادنا الذين بنوا كياناً من رحم النضال والتضحيات. إنّ يوم التأسيس ليس مجرد ذكرى في تقويم الأيام، بل هو نقش راسخ في سجل الزمن، يذكرنا بأن النخلة لا تُعطي ظلّها إلا إذا ضربت جذورها في باطن الأرض، وكذلك الأمم العظيمة لا تصنع مستقبلها إلا إذا احتضنت ماضيها. في السابع والعشرين من يناير عام 2022م، صدر الأمر الملكي الكريم من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود بأن يكون يوم 22 فبراير يوماً للتأسيس، وهو اليوم الذي يرمز إلى العمق التاريخي والحضاري والثقافي للمملكة العربية السعودية عندما أسَّسَ الإمام محمد بن سعود الدولة السعودية الأولى عام 1139ه / 1727م. إنّ يوم التأسيس هو مناسبة وطنية تُحيي ذكرى تأسيس الدولة السعودية الأولى وتربط الماضي العريق بالحاضر الطموح للسعودية. وعلى مدار أربعة سنوات منذ إقرار يوم التأسس، تحول هذا اليوم إلى مناسبة سنوية للتأمل في المنجزات السعودية وترسخ الهوية الثقافية والقيم الوطنية. ففي عام 2022م جسدت "نجناج" أجواء الأسواق الشعبية وأصوات الباعة والمشترين وحركة بيع وشراء المأكولات الشعبية والأزياء والملبوسات والحُلي والأواني التي كانت تستخدم في الماضي، كما وقفت قرية "طبب التاريخية" في عسير شاهدة على حكم الدولة السعودية الأولى، وفي عام 2023م أخذت "الليوان" المواطنين في رحلة تاريخية للإرث السعودي الأصيل كصناعة الفخار وحياكة السدو والبشوت، وفي عام 2024م عبرت "قرية التأسيس" عن بيئة الأباء والأجداد وقيمتها التراثية وتاريخها، وأبرزت خيمة قرية التأسيس أحد المكونات الرئيسية لشخصية الإنسان السعودي الذي لايزال مرتبطاً بها ويحنّ إليها في رحلاته البرية. وفي ضوء الأهداف السبعة التي تُجسِّدها هذه المناسبة، لم يعد يوم التأسيس مجرد احتفال تاريخي، بل أصبح مشروعاً ثقافياً ووطنياً يعزز الانتماء للهوية، ويُرسِّخ مكانة الوطن في قلوب أبنائه. الاعتزاز بالجذور الراسخة للدولة السعودية تترسخ الهُويَّة الوطنية للأمة بمدى ارتباطها بتاريخها، ويعيد يوم التأسيس السعوديين إلى اللبنات الأولى لكيانهم السياسي عام 1727م، حين أسَّسَ الإمام محمد بن سعود دولة قائمة على التوحيد. وذكرى يوم التأسيس ليست حدثاً عابراً، بل فرصة لتذكر المسيرة التي قادها الأئمة والملوك على مدى ثلاثة قرون. بداية من الدولة السعودية الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود، مروراً بالدولة السعودية الثانية بقيادة الإمام تركي بن عبدالله، وصولاً إلى الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبدالعزيز آل سعود، يروي هذا اليوم قصة كفاح مستمر لبناء دولة موحدة قوية. ولا تقتصر تلك الذكرى على استحضار بطولات الأئمة والملوك وحسب، بل تذكرنا أن قوة المملكة لم تكن وليدة اللحظة، بل إرث ثلاثة قرون من الإنجازات. وتظل الدرعية شاهدة على دعائم الدولة السعودية وأسس عقيدتها، وبهذا تصبح الحجارة رمزاً يذكر الأجيال الحالية بأن التأسيس مشروع حضاري وليس مجرد كيان جغرافي. الاعتزاز بالارتباط الوثيق بين المواطنين وقادتهم يشهد تاريخ السعودية على أنّ العلاقة بين الحاكم والمحكومين كانت عقداً اجتماعياً قائماً على الثقة المتبادلة، بدءاً من بيعة أهل الدرعية للإمام محمد بن سعود، وصولاً إلى مبايعة الملك سلمان وولي عهده. وهو ما يوضح أن القيادة السعودية تستمد قوتها من الانسجام مع إرادة شعبها. ويأتي الاحتفاء بيوم التأسيس ليعيد التذكير بتلك العلاقة الفريدة التي تجسد الانتماء الكبير للوطن وقيادته، وتغرس هذه المعاني في وجدان النشء والشباب. الاعتزاز بما أرسته الدولة السعودية من الوحدة والاستقرار والأمن بعد أن كانت الجزيرة العربية ساحة للانقسام والصراع القبلي، جاءت الدولة السعودية لتجمع هذه الوحدات المتناثرة تحت راية واحدة قائمة على مبادئ الشريعة السمحة. واليوم، أصبحت الوحدة والاستقرار حقيقة وواقع تُدافع عنه المملكة بكافة إمكاناتها، عبر تعزيز الأمن، وتحقيق التنمية المستدامة، بل وأضحت الوحدة السعودية نموذجاً يُحتذى في المنطقة والعالم. الاعتزاز بصمود الدولة السعودية الأولى والدفاع عنها أمام الأعداء لم تكن مسيرة التأسيس سهلة، فقد واجهت الدولة السعودية الأولى حملات خارجية، ولكنها صمدت أمامها، وهذا الصمود لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل درس في التحدي، فالسعوديون اليوم يستلهمون من أسلافهم أن الهزيمة ليست في السقوط، بل في عدم النهوض مرة أخرى. كما أن إحياء سيرة الأوائل يُذكِّرنا بأن الدفاع عن الوطن مسؤولية أخلاقية. الاعتزاز باستمرار الدولة السعودية واستعادتها لقوة جذورها وقادتها على مدى ثلاثمئة عام، شهدت الدولة السعودية عدة تحولات، تأسيس، ثم نهاية، ثم إعادة تأسيس، ثم توحيد، وأخيراً تحديث. وكان القاسم المشترك بين تلك المراحل هو الاستمرارية. فقد استطاعت القيادة إعادة إحياء أسس الدولة، فعندما قام الملك عبدالعزيز – طيبّ الله ثراه - بتوحيد المملكة عام 1932م لم يكن يبني دولة جديدة، بل استعاد مبادئ تأسيس الدولة السعودية الأولى والثانية. واليوم، تُترجم رؤية 2030 هذه الفلسفة التي تربط التراث بالمستقبل. الاعتزاز بالوحدة الوطنية التي أرساها الملك عبدالعزيز عندما أعلن المؤسس الملك عبدالعزيز توحيد المملكة، لم يكن هدفه توحيدها جغرافياً فقط، بل توحيد الهوية. فقد جعل من التنوع الثقافي والقبلي مصدر قوة على قاعدة الولاء للوطن، واليوم، تُعزز المملكة مباديء الوحدة الوطنية بين أبناء المملكة بترسيخ مفهوم الانتماء للوطن. الاعتزاز بإنجازات الملوك أبناء الملك عبدالعزيز في تعزيز البناء والوحدة منذ عهد الملك سعود وحتى الملك سلمان بن عبدالعزيز، حافظ أبناء المؤسس على التوازن بين الأصالة والمعاصرة، فالملك فيصل جعل من النفط قوة سياسية واقتصادية، وساعد القضية الفلسطينية كجزء من الهُوية الإسلامية، أما الملك خالد فقد ركَّز على البنية التحتية والتعليم كأساس للتنمية، وأسس الملك فهد نظاماً إدارياً حديثاً وأطلق مشاريع الحرمين الشريفين، وقاد الملك عبدالله تحولات اجتماعية أبرزها تمكين المرأة، أما الملك سلمان فقد أعاد إحياء العمق التاريخي للمملكة، ووضع سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أسس رؤية 2030 التي تجعل التراث والهوية قوة اقتصادية وثقافية. يوم التأسيس وهوية المملكة تقدم الأهداف السبعة ليوم التأسيس رؤية الدولة السعودية، التي تنظر للتاريخ كركيزة للمستقبل، وترى المواطن شريكاً في التنمية، والوحدة ضمانة للبقاء. لذلك، هذه المناسبة أكثر من مجرد احتفال، بل إعادة تشكيل للوعي الجمعي، وترسيخ لمبدأ أن الوطن لا يُبنى إلا بإرادة قوية وهوية أصيلة، وعلى الأجيال الحالية أن تدرك أنها ليست مجرد أفراد يعيشون الحاضر، بل حلقة في تاريخ ممتد من الهوية والعطاء. إنّ يوم التأسيس أكثر من مجرد ذكرى، إنّه رسالة مفادها أنّ الأوطان العظمى تُبنى بالعزيمة والإصرار والإرادة التي لا تنكسر، وبالهوية التي لا تتبدل، فالتاريخ ليس حكايات تروى بل جذور وثقافة وهوية تستمر ليبقى الوطن قوياً. ومنذ يوم التأسيس الأول وحتى اليوم، تواصل السعودية كتابة فصول مجدها بعين لا تنسى الماضي وعين تتطلع إلى المستقبل، معتمدة على تاريخها وحاضرها لتحويل التحديات إلى فرص للعطاء. وفي كل عام، يذكرنا هذا اليوم بأننا أبناء رجال عظماء وسنكون آباء لرجال عظماء.