مقابل المفهومين المتداولين عن التراث، التراث كمحافظة وتقليد وتكرار لنماذج راسخة، والتراث كتجاوز و"استذكار". مقابل هذين المفهومين يضع هايدغر مفهومين متعارضين للتطلعات والآفاق: هناك التطلع من حيث هو مخططات وتصاميم و"حساب للمستقبل" وفق المفهوم الذي تفرضه التقنية عن الكائن من حيث انه "ينطوي على رياضيات"، ثم هناك التطلع كاندفاعة نحو المستقبل تستمد انطلاقتها من ارتكازها على التراث وتجاوزه. الظاهر ان المشايعين لعلم المستقبليات يكادون يجهلون هذا المفهوم الثاني عن التطلعات والآفاق. لذا يغدو عندهم الحديث عن المستقبل تنبؤاً ونبوة. صحيح انه لا ينبني على فراغ، وغالباً ما يعتمد معطيات رياضية وقواعد احصائية، إلا انه يظل أقرب الى التنجيم والنبوة من حيث انه يعزل نمط المستقبل عن باقي انماط الزمان، فينظر اليه في عزلته وطهارته، وانفصاله المطلق عن "شوائب" الماضي. على هذا النحو، فعلم المستقبليات ينطوي على مفهوم ضمني عن التراث، وعلى فلسفة معينة في الزمان تعتبر الانفصال بين انماط الزمان عملية سهلة، بل عملية تلقائية. وهذه الفلسفة هي نفسها التي تكرسها فكرة التصاميم والمخططات. لقد أوضح هايدغر ان مفهوم المخطط يدخل في اطار الفهم الذي تفرضه التقنية عن الكائن. انه تجل للضبط الرياضي للموجود، ان في حضوره أو غيابه، في حاضره أو مستقبله. معنى ذلك ان المجالات القابلة لأن تكون موضوعاً لعلم المستقبليات هي مجالات نادرة في مجتمعاتنا التراثية، التي يشكل فيها الجدال حول الماضي جزءاً لا يتجزأ من الجدال حول الحاضر وحول ما نتطلع اليه في المستقبل. ان مفاهيم المستقبليات والآفاق والتطلعات لا تحيل الى المستقبل الا في مجتمعات بلغت فيها الحداثة أوجها، اما في مجتمعاتنا التراثية فالأفق والتطلع لا يمكن ان يعني الا رجوعاً الى الوراء. فذلك الرجوع وحده هو الكفيل بأن يدفع بنا نحو الغد والأمام والمستقبل. * كاتب مغربي.