بعد سنين طويلة من السبات القسري ومخاوف من زوال احدى أرقى لغات العالم، اللغة التي عرفت ملحمة كلكامش والخليقة والطوفان في عصرها القديم، الى كتابات الحكيم مستشار الملك سنحاريب، وملئها لمئات الكتب والألواح في مكتبة آشور بانيبال في العصر الوسيط، الى آلاف الكتب التي تبحث في الطب والفلك والرياضيات والفلسفة وشتى العلوم الأخرى، والواسطة بين العرب والاغريق التي نقلت من خلالها كتب أفلاطون وأرسطو الى العربية من قبل حنين بن اسحق وبختيشوع وغيرهم في العصر العباسي. انها اللغة الآشورية التي نطقت بها شفاه يسوع المسيح ع، فبعد سنين من اقتصار تداولها في الكنائس المشرقية، وعلى بعض المدارس الخاصة، ولو أنها ظهرت مبكراً في مجال الصحافة الآشورية في أول صحيفة آشورية زهريراد بهرا أي شعاع النور في سنة 1849 في منطقة أورسية في بلاد ما بين النهرين. إلا أنها ما لبثت بالإنحسار حين دخلت بلادنا ضمن منطقة التنافس الاستعماري من أجل الاستحواذ على ثرواتها في نهاية القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، كما كان عليه الحال خلال الغزوات العديدة التي احتلت فيها بلاد الرافدين من قبل اعداد العلم والتقدم خلال تاريخها الطويل. وفي العصر الحديث كان للدور السلبي للحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في المنطقة وغيرها من العوامل المؤثرة التي أدت الى تراجع المعرفة العلمية والأكاديمية باللغة الآشورية الى جانب مرضها وفقدانها لخواصها اللغوية العريقة وزوال الكثير من المرادفات والكلمات والمصطلحات الأكدية الأصيلة حيث حلت محلها كلمات أخرى غريبة عنها، وكان للكتب الكنسية الدور الكبير في الحفاظ عليها من الزوال الى جانب تداولها المنزلي فتم تناقل سماتها الأساسية من جيل لآخر. أما التحول التاريخي الذي يعتبر تطوراً كبيراً في مجال اللغة الآشورية هو تبني الحركة الديموقراطية الآشورية حزب آشوري قوي يتمتع بجماهيرية كبيرة، يمثل الآشوريين في الحكومة والبرلمان في شمال العراق، وله قواعد عديدة في جميع مناطق تمركز الآشوريين في العالم لمشروع احياء اللغة الآشورية بأسلوب علمي مدروس من خلال تطبيق تدريسها في مدارس حكومية رسمية في مناطق آشورية أو تلك التي غالبية سكانها من الآشوريين. أخذت هي اللغة العريقة بالنهوض مجدداً وبأسس علمية واضحة منطلقة من المراحل الابتدائية الأولى وصولاً الى المرحلة الجامعية طموحاً، حيث يتم تدريس جميع المواد المنهجية باللغة الآشورية لأول مرة بعد قرون عديدة من أفول نجم المدارس الآشورية الشهيرة مثل نصيبين واورهي وجند يشابور. كان لوصول عملية التدريس باللغة الآشورية الى امتحانات الصفوف المنتهية السادس الابتدائي في العام الماضي حيث تفوقت احدى المدارس الآشورية اربائيلو على مجموع المدارس الإبتدائية في محافظة اربيل 546 مدرسة نقطة يجب الوقوف عندها للبحث والتحليل، لكون هذه التجربة تعتبر الأولى من نوعها. فهي من جهة ضربة قوية تسكت الذين تطاولوا على هذه اللغة العريقة وحاولوا اخراجها من ساحة اللغات الحية الى صفوف اللغات الميتة، ومن جهة أخرى وهي الأهم هي قدرة الطالب الآشوري على النجاح والإبداع والذي يكون في أوجّه حين يدرس بلغته لا وبل التفوق على أقرانه في المدارس الأخرى. ان عملية التعليم باللغة الآشورية لكافة المواد المنهجية تعتبر الأولى من نوعها، وقد أثبتت نجاحها في المراحل الابتدائية وها هي تنطلق هذه السنة الى المراحل التي تليها، هذا وان دل على شيء فإنه يدل على جدارة هذه اللغة وأصالتها التي لا تجاريها لغة أخرى، وقد أثبتت على أرض الواقع هذا اليوم كما كانت بالأمس. ومما ساعد ورادف عملية النهوض باللغة الآشورية هو البرامج الإذاعية والتلفزيونية ذات التوجه التعليمي والتربوي أو التثقيفي بشكل عام والتي تبث باللغة الآشورية من خلال إذاعة وتلفزيون آشور في محافظتي اربيل ودهوك. هذا الى جانب الإصدارات والمنشورات الشهرية والفصلية والكتب التعليمية التي تصدر باللغة الآشورية، والدعم والإسناد الذي تلاقيه من قبل المؤسسات الثقافية في المنطقة كالمركز الثقافي الآشوري في دهوك ومديرية الثقافة الآشورية في الإقليم، هذا الى جانب الدعم اللامحدود من قبل مؤسسات الحركة الديموقراطية الآشورية حيث تمثل عملية التعليم باللغة الآشورية أسمى أهدافها. تعتبر اللغة الآشورية الحديثة المفتاح الذي يفك رموز الكتابات المسمارية الآشورية حيث أقر خبراء علم الآشوريات بالدور الكبير لزملائهم الآشوريين في تسهيل عملية فك الرموز، فأكدوا على ضرورة الإلمام باللغة الآشورية الحديثة للتعجيل في عملية دراسة المسماريات وترجمتها الى لغة مفهومة للجميع لأغراض البحث والتحليل، وما برنامج الجامعات العالمية في تقديم التسهيلات والمحفزات من أجل جذب الآشوريين للالتحاق بأقسام علم الآشوريات، حيث كانت آخرها الدعوة التي قدمها رئيس قسم الآشوريات في جامعة لندن نحو التحليل العلمي والدقيق لرموز الحضارة الآشورية التي ما زالت تحيّر العلماء والخبراء لإنجازاتها والرقي الذي وصلت اليه في ذلك الزمان وخصوصاً إذا ما عرفنا بأن ما تم ترجمته ودراسته لا يتجاوز 10 في المئة من مجموع الألواح المسمارية الموجودة في المتاحف والمراكز العلمية العالمية، هذا وان ما لا يزال في باطن الأرض بما يحمله من أسرار أكثر بكثير. لقد نالت اللغة الآشورية حديثاً اهتمام العلماء والباحثين فازدادت البحوث والمنشورات في الجرائد والمجلات وفي وسائل الإعلام العالمية حيث تبحث في علوم اللغة الآشورية وآدابها. وأخذت مجموعة أخرى متمثلة بالجمعية الأكاديمية الآشورية وبالتعاون مع جهات أخرى مهتمة باللغة الآشورية بالعمل على نشر قاموس آشوري - انكليزي متكامل. هذا العمل الذي استمر لسنوات طويلة من المؤمل انجازه قريباً، وكانت قد بدأت عملية نشر القواميس التي تجمع بين الآشورية وغيرها من لغات العالم وخصوصاً العربية والإنكليزية والألمانية والروسية لمساعدة دارسي علم الآشوريات وغيرهم من المهتمين في العالم. وقد كان آخر ما نشر في هذا المجال هو قاموس برعم اللغة آشوري - عربي، وآخر عربي - آشوري بعنوان قاموس بهرا النور أو الضياء، هذه القواميس التي تساعد كثيراً في عملية التدريس باللغة الآشورية، لها فوائد عظيمة أخرى على المدى القريب والبعيد أيضاً. ان التطور الكبير التي تحقق للآشوريين في شمال العراق كان يمثل بالأمس انجازاً صعب المنال، حيث عملية تدريس اللغة الآشورية بشكل علمي ومرحلي وهي التي وصلت الآن الى المرحلة المتوسطة قد نالت اعجاب المهتمين والباحثين بهذه اللغة وشجعت الكثير على تعلمها وأعادت الثقة الى نفوس الآشوريين وأعطتهم دافعاً قوياً للحياة بإرادة حرة وأحيت فيهم الأمل الذي كان باهتاً في أن ينالوا حقوقهم الثابتة على أرضهم التاريخية، فاللغة هي روح وشريان الأمة فباندثارها تضيع الأمة وتصبح في طور النسيان. إن القائمين على عملية التدريس باللغة الآشورية في شمال العراق يأملون وكما الآشوريين جميعاً على تعميم تدريسها لتشمل مناطق تواجد وتمركز الآشوريين في العراق بأسره. ومن المجالات العديدة التي دخلتها الآشورية في العصر الحديث هو الإنترنت فبإمكان المرء اليوم مطالعة العديد من الصحف والمجلات على شبكة الأنترنيت لمعرفة آخر الأخبار والأحداث وقراءة مختلف التقارير والأبحاث العالمية باللغة الآشورية أو غيرها من اللغات التي تبحث في علوم اللغة الآشورية وآدابها. وهناك العديد من البرامج التعليمية المتميزة التي تساعد المرء على تعلم الآشورية بسهولة وبسرعة من خلال الوسائل المتطورة التي توفرها شبكة الأنترنيت. ان العالم يسير اليوم باتجاه العولمة، فعملية تبادل الثقافات واختلاطها لا يعني بالضرورة الغاء أو احتواء ومحو الثقافات الصغيرة بل افساح المجال أمامها للتعبير عن نفسها وإبراز هويتها للعالم أجمع. فالآشوريين وجدوا أنفسهم وقد انغلقوا على أنفسهم بسبب تجاهل العالم لهم من جانب ومن جانب آخر بسبب رد الفعل من السياسات العدوانية تجاههم والحيف الذي لحق بهم في تاريخهم البعيد القريب. من هذا المنطلق بدأت صحوة آشورية مرتكزة على أسس صلبة متجهة للعالم برحابة أفق ذات أهداف واضحة تتجلى في الوصول بالشعب الآشوري الى مصاف الشعوب الأخرى في نيل حقوقه وإرادته الحرة في عالم يسوده السلام والأمن والألفة المتبادلة بين شعوبه وفئاته المختلفة. كاتب اشوري *