كان اختراع الكتابة هو أول الخطوات التي أدت الى قيام الحضارة البشرية الحالية، إذ مكنت الإنسان من نقل ما يكتسبه من معرفة الى الآخرين الذين يقيمون في أماكن بعيدة عنه، وإلى الأجيال التالية، وهكذا بدأ التعليم، فأصبح صغار الأجيال التالية يطلعون على معارف كبار الأجيال السابقة ويبدأون مسيرتهم من النقطة التي انتهى عندها آبائهم. وأصبحت المعرفة تسير في طريق تصاعدي بعد أن كان كل جيل يبدأ طريق المعرفة من أوله، كما أعطت الكتابة الفرصة للإنسان حتى لمراجعة كلماته المكتوبة، وإعادة صياغتها على نمط معين من قواعد التركيب اللغوي أو الإيقاع والوزن. وأصبحت الكلمة وهي مكتوبة معروضة على الفكر لتمحيصها ونقدها، مما ساعد على نشوء الأدب وقيام النظريات النقدية والفلسفية، فمن يكتب نصاً غير من يلقى كلاماً شفهياً، فبينما يخرج المتحدث الكلام ولا يستطيع التحكم فيه بعد إلقائه، فإن في وسع الكاتب استبدال كلمة بأخرى أو اختيار كلمات لها ايقاع معين، أو التحكم في صياغته لتوافق تركيبة لغوية تقوم على أساس من قواعد اللغة السليمة. وأول ما عرف الإنسان فن الكتابة كان في مصر وفي سومر خلال الألف الرابعة قبل الميلاد، ولا شك أن الإنسان عرف لغة الكلام قبل أن يخترع العلامات والحروف المكتوبة التي تدل عليها، ولا شك كذلك أن اللغة المكتوبة كانت في أول مراحلها تتفق الى حد كبير مع لغة الكلام. ونحن نجد هذه اللغات المكتوبة تتضمن الكثير من عناصر اللغة العربية التي عرفناها بعد ذلك، مما يؤكد ما أصبحت تشير اليه الدراسات الأثرية الحديثة، من أن غالبية الأقوام التي سكنت منطقة الحضارات القديمة، هاجرت من جزيرة العرب. وخلال العصر الجليدي، عندما كان شمال أوروبا والقارة الأميركية يقع تحت غطاء سميك من الجليد، كانت الجزيرة العربية وشمال أفريقيا، أراض خضراء تكثر فيها منابع المياه والنباتات، وأدت التغيرات الطقسية عند نهاية العصر الجليدي، الى بداية مرحلة التصحر. فبعد انتهاء العصر الجليدي الأخير - منذ ما يقرب من عشرة آلاف عام قبل الميلاد - بدأ ذوبان الجليد في المناطق الشمالية، وصاحب هذا عملية تصحر تدريجي في الجزيرة العربية وشمال أفريقيا. ولذلك كانت غالبية الهجرات البشرية التي جاءت الى أرض الهلال الخصيب ووادي النيل في الأزمنة القديمة، مصدرها الجزيرة العربية وشمال أفريقيا، وما الكنعانيون والأكاديون والأراميون والمديانيون الذين سكنوا هذه المناطق إلا مهاجرون ساميون عرب، خرجوا من الجزيرة العربية منذ الألف السادسة قبل الميلاد. كانت أول الأقوام التي سكنت جنوب أرض الرافدين، تتكون من مزيج من قبائل عربية سامية قدمت عن طريق الغرب، وأقوام فارسية جاءت من مناطق خوزستان الجبلية في الشرق، إلا أن الأقوام السومرية التي أعطت هذه المنطقة اسمها لم تأت إلا في النصف الثاني من الألف الرابعة ق.م، حينما فرضت سيطرتها على الجماعات التي كانت تعيش هناك من قبل. ولا يعرف أحد بالضبط من أين أتى السومريون، وهناك من يعتقد بأنهم جاءوا من عند جبال القوقاز في أواسط آسيا أو من أرمينيا وجبال ايران أو من وادي السند وبلاد الهند، لأن الملاحم السومرية القديمة تتحدث عن بلاد تقع خلف الجبال، وكذلك لأهمية "الجبل" في اعتقاداتهم الدينية، إلا أن غالبية الباحثين تميل الى الاعتقاد بأن السومريين وصلوا عن طريق الخليج في الجنوب لأن تجمعاتهم كانت هناك. تكونت مملكة سومر من مجموعة من المدن مستقلة بعضها عن الآخر، في النصف الجنوبي من وادي الرافدين، مثل "أريد" و"أور" و"سبار" و"لكش" و"شروباك" و"أوروك"، وتبادلت ثلاثة من هذه المدن حكم البلاد. واستمر حكم السومريين الى 2325ق.م. عندما جاءت أقوام سامية من الشمال والغرب بقيادة ساراجون وغزت مملكة سومر ومعظم منطقة الهلال الخصيب، وبنى ساراجون "أكاد" لتكون عاصمة جديدة، وبدأت الدولة تعرف منذ ذلك الوقت بإسم "سومر وأكاد". ولم تدم طويلاً وسرعان ما تعرضت لهجمات من الشرق ومن الغرب، كما نشبت الصراعات بين المدن السومرية نفسها حتى عصر حمورابي، الذي - بانتهائه خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد - انتهت سومر كلية، وبدأ العصر البابلي ذو الطابع السامي العربي. وأهم ما قدمته سومر للبشرية هو اختراع الكتابة المسمارية، وأقدم نصوص سومرية مكتوبة تم العثور عليها تعود الى نحو 3000ق.م، وإن ساد الاعتقاد ببدايتها - في شكلها البدائي قبل ذلك بخمسة قرون، ولم يتبين وجود أية علاقة بين السومرية التي تحتوي على 15 صوتاً وبين أي لغة أخرى قديمة أو حديثة، فالسومرية لغة تلصق كلماتها سوياً لتكوين وحدة مركبة ذات معنى مركب، وليست لغة تصريف مثل اللغات السامية أو الإندو - أوروبية، وتتكون الكتابة المسمارية السومرية من مقاطع وليس من حروف، فيقوم الكاتب بالتعبير عن أفكاره عن طريق اختيار شكل العلامات التي يستخدمها، من حيث دلالتها الصوتية والتركيبة اللغوية التي تصاغ بها، ينقشها على ألواح من الطين الطري، ثم يتركها معرضة للشمس حتى تجف. ونحن لا نجد بعض الأصوات العربية الخالصة في اللغة السومرية مثل "ع" و"ح" و"ض". إلا أن بها كلمات عربية ترجع الى الأقوام الأولى التي سبقت مجيء السومريين. ومع أن السومريين هم الذين اخترعوا هذه اللغة، إلا أن غالبية النصوص التي تفسر طريقة النطق بها وصلتنا عن طريق الأكاديين الذين خلفوهم، فعندما انتهى حكم السومريين توقف استخدام لغتهم في الكلام، فقام الكتبة الأكاديون الساميون الذين يقومون بتدريس هذه اللغة لتلاميذهم، بإعداد قوائم تحتوي على الكلمات السومرية وطريقة نطقها بالأكادية ويرجع الفضل في فك رموز هذه اللغة القديمة عام 1802، الى العالم الألماني "خيمورج فريدريك جروتفند"، وأكمل هذا العمل الباحث الإنكليزي "سير هنري رولنسون" عام 1846. وعلى الرغم من أن اللغة التي اخترعها السومريون لم تكن من العائلة السامية العربية، إلا أن الكتابة المسمارية استخدمت بعد نهاية حكم السومريين، لتدوين اللغات الأكادية والبابلية والآشورية والأوغاريتية السورية، قبل ابتكار الأبجدية الفينيقية. وكان الوضع مختلفاً عن ذلك كثيراً بالنسبة الى اللغة الهيروغليفية التي ظهرت في مصر في نفس الفترة الزمنية، والتي تختلف تماماً عن لغة السومريين، فمن الواضح أن اللغة المصرية القديمة كانت تشترك مع اللغات السامية في العديد من التركيبات الجوهرية، وإن كان بها بعض التشابه أيضاً مع لغات أفريقية، مثل الصومالية في الشرق والبربرية في الشمال، مما يدل الى أن سكان مصر منذ البداية، كانوا يمثلون خليطاً من أقوام جاءت من الجزيرة العربية وشمال وشرقي أفريقيا. فالمصرية تشترك مع السامية في خاصتها الأساسية التي تجعل كلماتها تشتق من مصدر واحد، غالباً ما يتكون من ثلاثة أحرف، كما تشتمل على كلمات مشتركة عديدة. كان الاعتقاد في البداية، استناداً الى القوائم التي تحتوي على أسماء ملوك الدولة القديمة وعدد السنين التي حكموها، أن التاريخ المصري - أي تاريخ ظهور الكتابة المصرية في عصر نارمر مينا - يرجع الى عام 4241ق.م. إلا أن الباحثين الذين حققوا هذه التواريخ ولم يعثروا على أدلة تاريخية ترجع الى بعض الأسماء التي ورد ذكرها في هذه القوائم، اتفقوا على جعل هذا التاريخ هو 3100ق.م. وتم تحقيق تسلسل قوائم الملوك منذ ذلك التاريخ، والتحقق من مدة حكم كل منهم. وكانت المفاجأة عندما عثرت البعثة الألمانية عام 1993 على نماذج من الكتابة الهيروغليفية - في إحدى المقابر بمنطقة أبيدوس بصعيد مصر - تعد أقدم من لوحة نارمر بمائة عام على الأقل. فقد أعلن الدكتور "جنتر" الذي أشرف على أعمال الحفر، أن حدود التاريخ المصري قد تقدمت لتصبح 3200 قبل الميلاد. وتقع هذه المقبرة على حافة وادي النيل غربي مدينة البلينا، في محافظة سوهاج بالصعيد عثر فيها على بعض الكتابات الهيروغليفية مكتوبة بالحبر الأسود على الأواني الفخارية. ومعنى هذا أن أقدم النصوص الهيروغليفية التي تم العثور عليها تسبق أقدم النصوص المسمارية التي وجدت بمائتي عام، وان ظل الخلاف قائماً بين العلماء في تحديد تاريخ ظهور المراحل البدائية من كلتا اللغتين، والتي لم يتم العثور على نماذج منه. اعتقد المصريون القدماء أن "تحوت" إله المعرفة، هو الذي اخترع الكتابة الهيروغليفية، التي سماها اليونان "هيروجليفيكا جراماتيكا"، أي "حفر الحروف المقدسة". أما المصريون فأطلقوا على لغتهم اسم "مدو نتر" أو مداد نطر بمعنى "الكلام المقدس". وتطورت الكتابة الهيروغليفية - التي كانت تتم في البداية عن طريق الحفر على الحجر - عن الكتابة التصويرية البدائية، فكان الكاتب في البداية يرسم صور الأشياء التي يريد التحدث عنها، إلا أنه بهذه الطريقة لم يكن في إمكانه التعبير عن الدلالات التي لا يمكن رسمها، كإسم العلم مثلاً، وتطور الأمر بعد ذلك فأصبح الكتبة يقومون برسم الشيء - ليس للدلالة عليه نفسه. وإنما لاستعمال الصوت الناتج عن قراءته في الدلالة على شيء آخر. فعلى سبيل المثال إذا كان هناك طائر يبدأ اسمه بحرف الألف، فهم قد رسموا صورة هذا الطائر للدلالة على هذا الحرف، وكان أول ما بدأ هذا النظام في أسماء العلم، وتحتوي اللغة الهيروغليفية على أصوات اللغات السامية الأساسية، مثل الحاء والعين والضاد، لكنها لا تعرف حروف الثاء والذاء والظاء، مثلها في هذا مثل العامية المصرية حالياً. لم تقم المسمارية السومرية والهيروغليفية المصرية - وهما أولى اللغات التي ظهرت في العالم القديم - على أساس من حروف أبجدية محددة، وإنما استخدمت الصور والرموز والعلامات للدلالة على الأصوات والمعاني المقصودة. وكانت الصورة أو العلامة تعبر أحياناً عن صوتين أو أكثر، فعلامة الدائرة - على سبيل المثال. كانت تمثل في الهيروغليفية صوتين "رع"، في البداية، أصبحت تمثل حرف "ر" فقط بعد ذلك وعلامة مفتاح الحياة كانت تمثل ثلاثة أصوات "عنخ"، التي أصبحت تمثل حرف "ع" فقط بعد ذلك. كما كانت الكتابة السومرية تقوم على المقاطع، وغالباً ما يحتوي نفس المقطع على الحركة الى جانب الصوت الساكن، ويعتبر ظهور حروف الأبجدية - وهو النظام المستخدم الآن في أغلبية اللغات - هو آخر أشكال تطور الكتابة وأكثرها تقدماً، وهي تحتوي عادة على 22 الى 28 حرفاً. وعند منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد - بعد اختفاء سومر - اتخذت الأقوام السامية في وادي الرافدين، الكتابة المسمارية واستعملتها في كتابة لغاتها بعد ادخال علامات اضافية عليها تعبر عن أصوات لغتهم، لم تكن موجودة عند السومريين. وبسبب الخلاف القائم بين لغتهم الأصلية - والتي تنتمي الى العائلة السامية العربية - وبين اللغة السومرية، لجأوا الى إنشاء أول أنواع القواميس التي عرفها الإنسان، فقام الكتبة الأكاديون والأشوريون بعمل قوائم تشتمل على المفردات السومرية ومقابلها في لغتهم الأكادية والآشورية، كما قاموا كذلك بترجمة النصوص السومرية، حتى يدرسها التلاميذ. ومن نماذج هذه الكتابة نص سجله "بوديلو" ملك أشور على لوح صغير، عثر عليه في بقايا مدينة "أشور" القديمة، والعاصمة الأولى للمملكة التي تقع عند "قلعة شرقاط" الحالية، غربي دجلة في شمال العراق، جاء به، "بوديلو ربو كينو زارو دانو زار أشور باني بيت شمش بيت إلي ناصيري"، والذي معناه: "بوديلو السيد الحق، الملك القوي ملك أشور، باني معبد شمس، معبدالإله الناصر". وفي خلال الألف الثانية قبل الميلاد استعارت شعوب سورية وفينيقيا وكنعان اللغة الأكادية في كتابتها. وان اختلفت عن لغة الكلام في هذه البلاد، ثم تطور الأمر بعد ذلك - منذ القرن السادس عشر قبل الميلاد - حيث أصبحت اللغة الأكادية المسمارية هي لغة الكتابة الرسمية، ليس فقط في منطقة الهلال الخصيب، بل وفي مصر وبلاد الحيثيين كذلك، حيث صارت هي اللغة الديبلوماسية التي يستخدمها ملوك هذه البلدان في التكاتب والتراسل. فكان ملوك المنطقة يتبادلون كتابة الرسائل التي يحملها السفراء في ما بينهم، لبحث مشاكلهم ومناقشة علاقاتهم المشتركة. وتم العثور على نحو 350 من هذه الرسائل - والمعروفة بإسم "رسائل العمارنة". مصادفة قبل نهاية القرن الماضي. عثرت عليها احدى الفلاحات بينما كانت تجمع السباخ عند موقع القصر الملكي القديم بتل العمارنة في صعيد مصر، وهي الآن موزعة بين متاحف برلين ولندن والقاهرة، الى جانب المتاحف الصغيرة وهواة جمع التحف. وتبين أن هذه الرسائل ترجع الى فترة حكم امنحتب الثالث وابنه اخناتون، في النصف الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتمثل أرشيف الرسائل الديبلوماسية بين الملوك المصريين وملوك الشعوب المجاورة، وكذلك مع المسؤولين المصريين المقيمين في فلسطين وسورية. وهناك ثلاثون لوحاً منها تحتوي على قائمة من الكلمات على شكل قاموس كما توضح طريقة الهجاء، وتعطي نماذج من التعبيرات التي تستخدم في كتابة هذه الرسائل، وكذلك بعض نماذج من أدب الأكاديين حتى يدرسها الكتبة المصريون. وتبين وجود اختلاف في طريقة نطق الشعوب للغات غيرها، فكلمة "رع" المصرية، تحولت الى "ريا" في كنعان، فقد ورد اسم امنحتب الثالث "نب مات رع"، في هذه الرسائل على أنه "نمو ريا". كما ظهرت في هذه الخطابات بعض الكلمات المترادفة والتركيبات اللغوية من كل من شعوب المنطقة، وبهذا أصبحت تمثل بداية ظهور لغة مشتركة بينها، فكلمة "ملك" الكنعانية تقابلها "زار" الأكادية و"نب" المصرية، وكلمة "أدون" الكنعانية تقابلها "رب" الأكادية و"أمير" المصرية. ولم يقتصر الاختلاط في لغة رسائل العمارنة، على التعبيرات الكنعانية والأكادية والمصرية وعلى الكلمات فقط، بل جاء كذلك في القواعد اللغوية وفي النحو، وفي طريقة تركيب الجمل والتعبيرات اللغوية، ويتضح من هذه الرسائل أنه، وان كانت اللغة الأكادية هي المستعملة في جميع هذه الرسائل خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد - إلا أنها تتضمن تعبيرات أمورية سورية ومصرية وكنعانية، جاءت من اللهجات الخاصة بهذه الشعوب. ومن الواضح أن الرسائل التي كتبها ملوك فلسطين وسورية وفينيقيا - وإن كتبت بالأكادية المسمارية - إلا أنها تمثل خليطاً من التعبيرات الأكادية والكنعانية، بل ان بعضها يكاد يكون كنعانياً بأكمله. كانت شعوب أرض الرافدين تتحدث لهجة سامية شمالية شرقية، بينما استعملت شعوب بلاد الشام لهجة سامية شمالية غربية. وهكذا اتضح أن اللغة التي استخدمت لكتابة رسائل العمارنة - وان كانت قد اعتمدت على الأكادية المسمارية أساساً - إلا أنها تطورت وأصبحت تمثل لغة أدبية خاصة، تختلف عن لغة كلام الأكاديين والكنعانيين والمصريين، فهي لغة أدبية لا يستخدمها أي قوم في الكلام. وإنم تستخدم في كتابة الرسائل الديبلوماسية، والكتابات الأدبية فقط.