تمر هذه الأيام الذكرى السنوىة الخامسة لغياب المخرج المسرحي المصري والاستاذ بمعهد الفنون المسرحية توفيق عبداللطيف. وينتمي الراحل الى جيل المسرحيين المصريين والعرب الذين أحبوا - بل عشقوا - المسرح، وقرروا عدم الاكتفاء بوجود الموهبة لديهم، بل استكمال ذلك بالدراسة الجادة والمعرفة العلمية. وكان ذلك في النصف الأول من الستينات عندما كانت نهضة المسرح في مصر في ظل رعاية الدولة واحتفائها بالمسرح سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر عبر تبني التلفزيون المصري لجهود وأنشطة مسرحية مهمة كان في مقدمها مسرح التلفزيون. إلا ان توفيق عبداللطيف وجيله واجهوا عند تخرجهم في معهد الفنون المسرحية واقعاً مختلفاً. فقد حدثت هزيمة حزيران يونيو 1967 وأثرت، في ما أثرت - في و ضعية المسرح المصري ورعاية الدولة له. وتمخض عن ذلك بدء بزوغ عصر جديد أطلق البعض عليه وصف المسرح التجاري، وهو وصف لا أتفق معه تماماً، أذ ان "التجارية" في حد ذاتها لا تعيب أي فن. وربما كان الوصف الأدق لذلك المسرح هو "مسرح المقاولات" الذي أطلقه بعضهم الآخر عليه، وهو ما عكس حالة مجتمعية معينة، واستكملها مسرح "الانفتاح" منذ منتصف السبعينات وصاعداً. ولا يعني ذلك انكار أن أعمالاً جادة عرضت على خشبة المسرح المصري منذ العام 1967، وانما ضاقت المساحة المتاحة لمثل هذه الاعمال الملتزمة، على الأقل حتى النصف الثاني من الثمانينات ومطلع التسعينات عندما بدأ يظهر حد أدنى من توازن محتمل بين عوامل الثقافة والفن والذوق من جهة واعتبارات السوق والربح المادي والعرض والطلب من جهة أخرى. وإذا عدنا الى توفيق عبداللطيف وجيله، نجد انه وبعض زملائه آثروا - في ضوء محنة المسرح التي سبقت الاشارة اليها - سلك خطين متوازين: الأول الالتفات الى معهد الفنون المسرحية وتولي مناصب التدريس به بهدف اعداد أجيال جديدة من المسرحيين الشباب المتسلحين بالوعي والعلم بجانب الموهبة والالتزام بقضايا الانسان العربي المعاصر بما يمكنها من وضع اساس قوي وثابت لنهضة مسرحية حقيقية مصرياً وعربياً. وفي هذا الاطار، أفاد توفيق عبداللطيف الآخرين بالمعهد العالي للفنون المسرحية - الذي عمل بهيئة التدريس فيه منذ مطلع السبعينات وحتى وفاته في 19 تشرين الثاني نوفمبر 1993 - من خلال تدريسهم أو التحاور معهم أو معاونتهم، أو اخراج مسرحيات التخرج لهم. وكان ككل فنان موهوب ومبدع لا يغضب من الاختلاف مع الآخرين في الرأي، بل كان قادراً على اقناعهم بوجهة نظره في أغلب الاحوال وعلى اكتساب احترامهم دائماً من دون محاولة تجريح للآخرين أو تهميشهم. أما الخط الثاني الذي سلكه توفيق عبداللطيف بالتوازي مع خط التدريس فهو يتصل بالخط الأول، ونعني هنا الدراسة والبحث العلمي في مجال المسرح، معبراً بذلك عن قناعة راسخة بضرورة الاستفادة من مدارس الاخراج المسرحي الموجودة حولنا في العالم شرقه وغربه والانفتاح على هذه المدارس من منطلق التواصل مع الاسهامات الانسانية ثقافياً وفنياً دونما تجاهل لخصوصية كل مجتمع وثقافته، وبالتالي فنونه. ولم يقف تباعد المسافات ولا حجم العوائق امام اتباع توفيق عبداللطيف للنهج الذي اختاره. فعلى المستوى الاكاديمي أكمل دراسته العليا في كل من بولندا والاتحاد السوفياتي السابق ومصر. وقد أعد الكثير من الدراسات القيمة عن المسرح العالمي وكيفية الاستفادة من اتجاهاته لتحقيق نهضة المسرح العربي. وتضمنت هذه الدراسات رؤية متميزة له من دون اكتفاء بالنقل عن الآخرين أو ترجمة وايجاز ما كتبوه كما يفعل البعض. ومن تلك الدراسات "مدارس التمثيل من ستانسلافسكي الى جروتوفسكي" التي تضمنت ثلاثة أبواب: احتوى الباب الأول مدخلاً تاريخياً تعرض لتطور فن التمثيل في الغرب ثم قسم موضوع البحث منهجياً الى موضوعين: الاتجاه الواقعي في التمثيل، وبقية الاتجاهات الاخرى. وفي الباب الثاني تعرض توفيق عبداللطيف لمسألة احساس الممثل عند جاك كوبو وانتونان أرتو وديدرو كوكلان وبرتولد برشت وجماعة الكارتل وجروتوفسكي. وقد رحل توفيق قبل ان ينهي الدراسة التي بدأها حول "مسرحة المسرح كجوهر للاخراج المسرحي الحديث". ونذكر هنا انه ترجم أيضاً العديد من الاعمال والكتابات العالمية حول المسرح الى اللغة العربية لاتاحتها أمام القارئ العربي للتعرف عليها. إلا ان الخطين السابقين اللذين سار فيهما توفيق عبداللطيف - أي التدريس والبحث العلمي والدراسة - لم يؤديا الى ابتعاده بشكل دائم عن الاخراج المسرحي خارج حدود معهد الفنون المسرحية. فقد تصدى في مطلع السبعينات لمهمة هي أقرب للتحدي منها الى الفرصة حينذاك، ألا وهي اخراج مسرحية "قولوا لعين الشمس" التي ألفها وبدأ اخراجها الراحل نجيب سرور ولم يستطع استكمالها لأسباب صحية ألمت به آنذاك. وقد قدمها المسرح القومي الذي كانت تتولى ادارته الفنانة سميحة أيوب. وخرج العرض متميزاً وظل النقاد يعتبرونه من أفضل ما قدم مسرح الدولة في مصر في العقود الثلاثة الأخيرة. وبين هذه البداية المبشرة وعودة توفيق عبداللطيف للاخراج خارج المعهد ما يقرب من عقدين من الزمان ابتعد هو وبعض من أبناء جيله خلالهما عن الاخراج لأسباب تناولناها بإيجاز في مقدمة هذا المقال. وجاءت عودته في مطلع التسعينات عبر عملين: الأول كان عبارة عن تحويل نص لبيكيت الى عرض مسرحي في اطار المهرجان الأول في مصر للمسرح التجريبي، وهو ما حاز على اعجاب وتقدير النقاد والمشاهدين من مصريين وعرب واجانب. أما العمل الثاني فكان أيضاً منقولاً عن المسرح العالمي وهو نص مونولوج "لقطة من حياة ممثلة" لتشيكوف. ولقد عرض باخراج توفيق عبداللطيف على مسرح الهناجر بالقاهرة كانتاج مشترك لمسرح الطليعة ومسرح التلفزيون وقامت ببطولته الفنانة صفية العمري. وعبّر اخراج هذا العمل وما لقيه من نجاح فني وجماهيري عن عمق موهبة وثقافة وخبرة توفيق عبداللطيف كمخرج. وقبل هذين العملين كان هناك مشروع لعمل مسرحي مع الفنان نور الشريف في اطار المسرح القومي الا انه لم يترجم الى واقع. إن المجالات الثلاثة التي تناولناها في هذا المقال في شأن الإسهام الخاص بتوفيق عبداللطيف في مسيرة المسرح المصري في العقود الثلاثة الماضية تكون معاً صورة كاملة لكافة ابعاد هذه المسيرة: دور معهد الفنون المسرحية كقلعة لصقل المواهب بالعلم، والبحث العلمي كسبيل للاستفادة من الاتجاهات النظرية والتطبيقية في العالم بهدف تطوير المسرح المصري والعربي، وأخيراً اخراج المسرحيات الى حيز الواقع تجسيداً للنتيجة النهائية: أي التفاعل بين المسرح كفن والمجتمع الذي يعيش فيه. ونذكر في الختام انه في مختلف جوانب هذه الصورة تميز توفيق عبداللطيف بتركيز اهتمامه على كل ما من شأنه تحقيق تقدم المسرح المصري والعربي ونهضته وتفاعله مع المجتمع من حوله، دونما التفات الى مطامع في منصب أو تملق لمسؤول ومن دون تباهي بثقافته أو موهبته، مؤكداً على قيمة الفنان الحقيقي الذي لا تناقض لديه بين تميزه الذاتي وبين العمل مع الآخرين في اطار جماعي يحول الابداع الى فن يعيشه الناس ويحسونه. * كاتب وباحث مصري