زارني "طائر البوح" مراراً مصطحباً عن يمينه حامد عبدالله. راوغته مراراً دون جدوى فكان عليّ أن أبوح وأكتب عن فنان له مكان خاص ومكانة عالية في قلبي وفي حركة الفن العربي الحديث. بدأت عيوني تتفتح على أعمال حامد عبدالله في الخمسينات حين كنت طالباً غضاً أدرس الفن بكلية الفنون الجميلة في القاهرة. كان لإسم حامد عبدالله ولأعماله وقع خاص على أفئدة شباب يبحث عن الفن ولا يجد في الكليات إلا دروساً أكاديمية تتبع مناهج الأكاديميات الإيطالية والفرنسية بقصور التابعين وضيق أفقهم. ثائر على الأكاديمية والأكاديميين. فن مصري لرسام متمكن وموهبة شديدة الخصوبة والخصوصية أيضاً. كانت سنوات الخمسينات سنوات خصوبة عارمة في الفن التشكيلي المصري، حيث فرسان السوريالية التي استقطبت أهم مواهب تلك الفترة الثرية من محمود سعيد إلى الجزار وحامد ندا ثم فؤاد كامل وآخرين كثر لست في مجال حصرهم جماعات الفن مثل الفن والحرية والفن للجميع. تجمعات للفنانين، لكن حامد عبدالله وكمال خليفة تفردا بشخصيتها الفنية التي لا تصلح للانضمام إلى أي جماعة أو تجمع. فهناك دائماً "آحاد"، أو ما يقول عنهم صديقي الشاعر السماح عبدالله "الواحدون" وأنا "واحد" منهم. أرحل إلى باريس حاملاً معي إعجابي وانبهاري بأعمال حامد عبدالله التي تحققت في الأربعينات والخمسينات من هذا القرن. لم أبحث عن الرجل حينذاك فقد كنت مازلت مشروع فنان يحس أنه لم ينضج بعد ليستحق الالتقاء بالفنان المحبوب. أقمت معرضي الأول ولم أغامر بدعوة الفنان الأثير إلى قلبي خوفاً ووجلاً. يمر عامان لأقيم معرضي الثاني بعد نجاح كان قد تحقق في العرض الباريسي الأول. وأفكر في دعوة حامد عبدالله. يتصادف أنني كنت في خلاف مبدئي مع المسؤولين عن العرض بالمركز الثقافي المصري آنذاك. يأتيني فنان كبير مصري لينصحني بعدم التمسك بما رأه حقاً. أتعجب!!، بعد هذا اللقاء بساعة يأتيني صوت على الهاتف قائلاً: أنا حامد عبدالله. وأرحب بالفنان قائلا: جاءت لحظة دعوتك إلى معرضي. يقاطعني الرجل بعربية فصحى كان لا يحيد عنها في حواراته اليومية العادية - أعتقد أن هذا ملمح مهم لمعرفة شخصيته وانتمائه وحسه القومي. يقول لي حامد عبدالله على الهاتف أنت رجل والرجال قليل. موقفك صحيح ومبدئي. أنا معك. سنصبح أصدقاء نلتقي بمعرضك. وقامت بيننا صداقة دامت واستمرت منذ يومها الأول بحميمية واحترام وحب. أقترب من الفنان ليزداد إعجابي بفنه والفنان الرجل أيضاً. وأبحت في أوراقه لأعرفه فأقوله لكم في كلمات أنا أعرف منذ البداية قصورها. فهذا فنان يستحق منا بحوثاً أكاديمية علمية توثق وتحلل وتلقي الضوء وتستنبط الدروس المستفادة. لكنني سأكتب انحياز فنان لفنان أحبه وأحب أعماله وهذا كل ما أستطيع، ولعل به بعض الفائدة. ولد حامد عبدالله في العاشر من آب آغسطس 1917 بمدينة القاهرة. ابن اسرة صعيدية نزحت من الجنوب لتعمل مراكبية على نيل المنيل وهو أحد الاحياء الشعبية العريقة. يدرس حامد عبدالله ما بين 1931م الى 1935 تشكيل الحديد بمدرسة الفنون التطبيقية. لاحظوا اختيار الخامة الصعبة التي تلائم صلابة الرجل. تفسر لنا هذه الدراسة استخدام حامد عبدالله للخط الاسود الرصين المحيط بكل اعمال سنوات الاربعينات والخمسينات التي عبرت عن وجوه وشخوص مصرية شعبية. كان المقهى وابن البلد والفلاح هم شخوص اعماله في تلك الفترة. تذكروا أننا في الاربعينات تحوطنا تأثيرية ناعمة استوردها يوسف كامل، ومخملية رصينة استوردها احمد صبري، ونظرة استشراقية فلكلورية من فنانين اجانب عاشوا في مصر وتتلمذ الكثير على ايديهم. يعشق حامد عبدالله الرسم وظل حتى آخر ايامه مخلصاً له عاشقاً يتفرغ للفن. فأنا أرى فيه أول "المتفرغين" ويبدأ أول رحلة فنية له عام 1939 - عام ولادتي - وينتهي عام 1942 من التعرف على أرض مصر من الجنوب الى الشمال حتى الواحات في الصحراء. كان قد زارها واصطحب من تلك الرحلات معرفة عينية بشعب مصر رجالاً نساء. آلاف الرسوم وعشرات اللوحات حققها الفنان آنذاك. يفتتح حامد عبدالله أول محترف لفنان مصري يدرس الفن مزاحماً الخواجات الطلاينة والفرنسيين. تتجمع في مدرسته نساء الطبقة البرجوازية العليا وبعض أميرات البيت المالك حتى الملكة فريدة. من الفنانين الذين درسوا على يديه الفنانة إنجي افلاطون وصفية حلمي حسين، وقد أكدت صفية لي ما قاله حامد رغم ان انجي - رحمها الله - انكرت انها كانت تلميذته. يلتقي بتحية حلمي وتتلمذ على يديه. يحبها وتحبه. تتزوج إبنة كبير ياوران الملك فؤاد ابن الفلاح رغم اعتراض الاسرة. على شاطئ الاسكندرية تقدم له إحدى اعمالها وكانت تحية قد سارت في الفن خطوات، ويشير المعلم وترفض الفنانة نصائح أستاذها لأول مرة. ولا يرضى الفنان الصلب باعتراض تلميذته، وتصر تحية حليم على الانفصال. يمر عام على الانفصال ويموت والد تحية حليم فتعود الى حامد، وأسألها لماذا. تبتسم بنعومة آثرة قائلة: إنه الرجل في حياتي. يقوم الزوجان برحلات الى اوروبا، تحية تتلمذ وحامد يحاور المنتج الغربي ويناقش ويأخذ موقفاً نقدياً سلباً وايجاباً وهذا كان حديث تحية حليم لتوثيق ما أخبركم به. لحامد عبدالله همومه السياسية النضالية. يقول مؤنس حامد عبدالله في كتاب صدر بباريس عن حامد عبدالله أنه شارك في النضال ضد الانكليز ولا يذكر لنا تفاصيل ذلك. ويذكر مؤنس ايضاً ان حامد عبدالله لم يسامح عبدالناصر أبداً حين ارسل القوات العسكرية الى العمال المضربين في كفر الدوار واعتقل البقري وخميس، وكانت هذه الحادثة أحد أسباب خيبة أمله في الثورة ورحل الى الغرب ليجد نفسه منغمساً في الدفاع عن الثورة ومصر والمصريين ضد ضحالة معلومات الشعوب الاوروبية وانحيازاتهم التي تتسم بعدم الموضوعية بل تصل الى حد العنصرية احياناً. يحقق حامد عبدالله نجاحاً في عروض بقاعات العرض الخاصة بالعواصم الاوروبية التي عرض بها وهي كثيرة. باريس ولندن وامستردام وروتردام وكوبنهاغن وواشنطن ونيويورك، هذا بالاضافة الى بعض البلاد العربية خاصة سورية - وتتوالى اعمال الفنان، ويعتبر حامد من أوائل الفنانين العرب اللذين قد استخدموا الحروف العربية في لوحاتهم. وتتميز لوحات حامد الحروفية بأنها لم تسقط في هوة تحويل الحروف الى نغمات موسيقية شكلية فرغت طقس الكتابة العربية وتقاليدها الرصينة من قيمها التشكيلية وحولتها - تلك اللوحات التي سقطت في هوة الزخرفية - الى اشكال تجريدية تدغدغ الذوق الاستشراقي الغربي. الكلمة عند حامد عبدالله تتحول حروفها الى شخوص شرسة ومعبرة. فلوحة مثل "انهض" أو "الخائن" أو "الهزيمة"، ولو اخترنا لوحة "الهزيمة" مثلاً فقد لا تستطيع احتمالها إن كنت مصرياً. تحولت الكلمة الى رجل راكع في وضع مهين يدعو الى امتطائه. إنها تثير فيك احساساً عنيفاً برفض الهزيمة والعراك معها بل ومحاولة الخروج منها حينئذ تتلقاك لوحة انهض بتحريضيتها السافرة المباشرة. هذه المجموعة تستحق بحثاً منفرداً تقوم به رسالة دكتوراه بدلاً من الموضوعات المستهلكة. سطوح اعمال حامد عبدالله منذ بداية اعماله تدعونا الى تأملها والوقوف عند جمالية السطح الفنية. بعض لوحاته وصل فيها الى تشققات نراها في ارض مصر العطشى الى الماء احياناً. لا محاكاة أو شبهتها بل هو تحقق وبحث فني. مجموعات اللوحات التي تمثل صخوراً تجريدية وأغلبها في الأسود والابيض بحث آخر فني. أعترف لكم بالرغم من ان التحقق الفني في كل اعمال حامد عبدالله كان لافتا للنظر، ولا يخفي على العين أبداً ويشاركني الرأي إدوار الخراط حين قال: "لا اظن أن فناناً مصرياً استطاع ان يسيطر على مراحل فنه المختلفة، مرحلة بعد مرحلة، بأستاذية وإلهام لا يخطيء على تنوع هذه المراحل، واتساقها في آن مثل ما فعل حامد عبدالله". بالرغم من اتفاقي إلا أنني أجد نفسي منغمساً في وله خاص بأعماله الأولى حيث رسوم الانسان المصري المسيطر على وجدان الفنان، وحيث محاولات نقل الشخصية المصرية بحب وود من ناحية وبأستاذية واقتدار وبحث فني لا يجارى ولا يبارى باغت به الحركة التشكيلية المصرية في الاربعينات والخمسينات والذي أثر على أعمال فنانين كثر أذكر منهم أعمال الفنانة جاذبية سري. حين رسمات أنا نفسي مجموعة شهادات الغضب أهديتها الى حامد عبدالله لأنني وجدت بها شيئاً ما يربطني بأعمال تلك المرحلة الاثيرة الى قلبي في أعمال الفنان. الخطوط السوداء الصريحة التي تجوب اللوحة رصينة قوية شامخة وحنونة رقيقة في آن واحد. كيف هذا هو إعجاز حامد عبدالله. تتحاور تلك الخطوط السوداء التي تأخذ مساحة كبيرة من سطح اللوحة بألوان صريحة حيث الاحمر والاصفر والازرق بكل نصوعهم وضوئيتهم الصريحة تحكمها وترشدها وتعطيها الخطوط السوداء حياة خاصة فتنبض الألوان بالحياة. وأرى ان شراسة وسطوة حامد عبدالله تتوازى مع سطوة وشراسة بيكاسو وجويا. تناطحهما وتباريهما ولا تقل عنهما بأي حال من الاحوال. يثور السؤال في وجداني دائماً: كيف استطاع حامد عبدالله الذي عاش قرابة الثلاثين عاماً في الغرب الاحتفاظ بهويته. برحلاته الأولى للإطلاع والحوار مبررة لدى. سفره الغاضب مبرر لدي. لكن ان يبقى كل هذه الاعوام ليس مبرراً وأعتقد أن حامد الفنان خسر الكثير بالبقاء في الغرب كل تلك السنوات وخسر الفن وخسرنا نحن من جراء ذلك. حينما أبلغت حامد أنني عائد إلى أرض الوطن عام 1980 لم يصدق أولاً، وعندما أريته البطاقات اغرورقت عيناه بالدموع واحتضني ووصلتني الرسالة وخفضت عيني خجلاً من أن أرى حامد عبدالله الصلب معبراً عن عواطفه هكذا، وفي موقف ضعف. وبدأ حامد عبدالله رحلة العودة إلى أرض الوطن مرة ثانية عام 1983. جاء وفي ذهنه شباب الفنانين بل والفنانين انفسهم. تصور أن دور "المعلم" الذي كان يمارسه في الاربعينات والخمسينات أصبح ضرورة له في هذا العمر بعد أن جاوز عمر الستين. أشفقت عليه حباً حين كنت اراه شارحاً ومعلماً لقلوب لا ترى وآذان لا تسمع. كنت أقف بجواره صامتاً خجلاً لا استطيع وقف حماسه. لقد تغير المناخ وأصبحنا نطبل ونزمر للشباب على حق أحيانا وعلى غير حق في أغلب الاحوال. وبدأ حامد عبدالله الرسم على المقهى مرة ثانية. جلسنا معه أنا والفنان زهران سلامة على مقهى ببولاق فأخرج أوراقه وبدأ يرسم الرجال والنساء بأستاذية بهرتنا. ملت على صديقي زهران هامساً لقد عاد "حامدنا". حاولت ان يقيم له اتيليه القاهرة عرضاً لأعماله فأشاروا عليّ بأن يقدم طلباً ويدفع إيجاراً... وضحكت باكيا أو العكس، وكان هذا من يتاجرون بإسمه الآن. قالت عنه المخلصة تحية حليم: عندما جاءني يا عدلي وضع رأسه على كتفي وبكى. ويصر الرجل على العودة ويقيم شهوراً طويلة بموقف دون كيشوتي نبيل. وفرحنا لعودته واستبشرنا خيراً، لكن المرض اللعين هاجمه وحاول مصارعته. يقول لي جورج البهجوري الذي يعتبر نفسه قد تتلمذ على رسم حامد عبدالله وكنا نمر أمام المستشفى ان حامد عبدالله ضم يديه صارخاً لن تهزمني. كان يحدث المرض وكان هذا قبل رحيله بيوم واحد. واغرورقت عيناي بالدموع. ومات في باريس. حامد عبدالله احد ابناء مصر البررة، ولا تجود الطبيعة بمثل تلك الموهبة إلا نادراً، وفي العالم المتقدم يحتفون بتلك المواهب وانجازاتهم احياءً أو أمواتاً. حتى لو أخطأوا في تقدير المواهبة يستدركون اخطاءهم ولو بعد الموت وليكن لأعمال حامد عبدالله بعض حظ ونصيب أعمال فنان غوغ. ماذا لو أقمنا متاحف فردية لمثل هؤلاء الآحاد وأنا رأيت بعيني مدى دأب وإخلاص زوجته السيدة الدانمركية الأصل الفرنسية الجنسية، وكيف أنها تعطي كل وقتها لأرشفة والحفاظ على تراث حامد عبدالله انتظاراً ليوم أرجو ألا يطول انتظاره. متحف لحامد عبدالله ايها القادرون على ذلك. * فنان تشكيلي مصري.