صبري منصور، هو أحد الفنانين المصريين الذين أخذوا على عاتقهم التصدي لمفهوم الهوية المصرية في اللغة البصرية. يستفيد من التاريخ والموروث المصري لإبداع حالة عضوية مشتركة بين أطياف الثقافات التي مرت على مصر عبر عصورها. وما بين الحلم والحقيقة تتشكل ملامح هذا العالم في مشهدية أسطورية، بخاصة إذا ما تعلق الأمر بأعماله المستوحاة من القرية ومفرداته الذائبة في عالم ما ورائي، وبشخوصه العارية المنسجمة مع موسيقى الكون وغموضه. ولد صبري منصور في إحدى قرى طنطا شمال مصر عام 1943 والتحق بكلية الفنون الجميلة في القاهرة ليتخرج فيها عام 1964 وتدرّج في وظائف التدريس فيها إلى أن صار عميداً لها حتى عام 1992. مكتبة صغيرة، وعدد من اللوحات المعلقة على الجدران، وبعض أدوات الرسم المتناثرة هنا وهناك... هي كل ما يستقبلك فور دخولك إلى محترفه الهادئ في قلب القاهرة. بين هذه التفاصيل رحتُ أبحث عن تلك الأسطورة التي تغلف أعمال صبري منصور، لم أنتظر كثيراً، فسرعان ما اكتشفتها على الفور، ليستحيل هذا الهدوء في لحظة شيئاً آخر. مزيج من دقات الطبول ورنات الصاجات. وأصوات حادة، تصدح بأغنيات غير مفهومة. إنه «الزار»، ذلك الطقس البدائي العجيب الذي فتح له الباب على عالم غريب ومدهش. لوحة «الزار» ذات الحجم الكبير تستقبل الزائر إلى محترف صبري منصور، وهي من أهم إبداعاته، ليس في قيمتها التشكيلية فحسب، ولكن لكونها مفتاح هذه التجربة، والتي انطلقت من خلالها تلك الأسطورة لتتولد منها آلاف الأساطير التي تغلف أعماله بشيء من الغموض والسكينة. رسمها في السنة النهائية لدراسته في كلية الفنون الجميلة كمشروع للتخرج وما زال يحتفظ بها أمامه كالحريق الذي يستمد منه وهج اللحظة وعنفوانها. في أعمال صبري منصور يحتفظ البشر ببدائيتهم الأولى. هم على الفطرة. عرايا كما وجدوا في هذا الكون. يتقلبون بين السعادة والشقاء. وما بين الحلم والحقيقة يتحركون في مواكب ملحمية، حاملين أحلامهم على الأكتاف، تحيطهم هالة من القداسة والرهبة والأسى. جاء صبري منصور إلى القاهرة في نهاية خمسينات القرن الماضي وهو لا يزال شاباً متردداً يخط مستقبله بأصابع مرتعشة، وكان عليه أن يلتحق بإحدى الكليات، وكان قسم الفلسفة في كلية الآداب هو ما استهواه في البداية، غير أنه حين علم بفتح باب القبول في كلية الفنون الجميلة، قدم أوراقه متردداً، لكنه سرعان ما حسم أمره كما يقول في أول زيارة له لهذه الكلية ذات التاريخ العريق، فقد عرف أن هنا مكانه الذي لن يبرحه، وكانت سنوات الدراسة هي سنوات للمعرفة الحقيقية، فوجوده في القاهرة أتاح له الكثير من وسائل المعرفة والثقافة التي كان عليه أن يتعرف إليها للمرة الأولى. يقول منصور معلقاً: «كانت فترة الدراسة في غاية الثراء، فحين جئت إلى القاهرة كنت أعيش بمفردي، وسرعان ما بدأت أتأقلم مع المجتمع والحياة في هذه المدينة الكبيرة، وأتاح لي هذا التفرغ فرصة للقراءة والاطلاع على شتى أشكال الفنون، بدأت أتعرف إلى المسرح وأواظب على زيارة الغاليريات والمتاحف الفنية ودور العرض السينمائي في شكل منتظم، وكانت الموسيقى من أهم الأشياء التي اكتشفتها في تلك الفترة وأنا الشاب الريفي الذي لم يكن يلقى بالاً لمثل هذه الأشكال من الفنون. كانت المدينة تمثل عالماً جديداً تتكشف ملامحه أمام عيني شيئاً فشيئاً، وكنت سعيداً به ومقبلاً عليه في نهم شديد للمعرفة». لوحة «الزار»، هي مشروع التخرج في الفنون الجميلة، وهي بداية أيضاً لتجربة لم تنقطع مع الموروث والأسطورة. فلماذا وقع اختيارك على هذا الموضوع بالذات ليكون مشروعاً لتخرجك؟ - عالم «الزار» كان موضوعاً مناسباً ويعكس ميلاً داخلياً لاستشراف مثل هذه العوالم الأسطورية، وهو ميل شجعني على الخوض فيه منذ السنة الثانية لي في الكلية أستاذي حامد ندا. غير أن موضوع «الزار» وجهني إليه الفنان عبدالهادي الجزار وكان أستاذي هو الآخر في الفنون الجميلة، فحين كنت أبحث عن موضوع لمشروع التخرج في السنة النهائية نصحني هو أن أتناول موضوع «الزار» ولقي الأمر قبولاً لديَّ. قضيت عاماً كاملاً أجهّز لهذا المشروع، حضرت خلاله العشرات من جلسات «الزار» كمشاهد وأحياناً كمريض أيضاً... خضت التجربة بكل تفاصيلها وملامحها مستعيناً بإحدى السيدات من أجل الدخول إلى هذا العالم، وكان عليَّ أحياناً أن أتظاهر بأنني ممسوس كي يتم تقبلي وسط هذا العالم الغريب. كان الغناء والإيقاع اللذان كنت أسمعهما يستثيران في نفسي شيئاً بدائياً لا أفهمه ويحيلني إلى عوالم أخرى مسكونة بالأسطورة. في تلك الأثناء عرفت أن موضوع «الزار» كان هو موضوع التخرج نفسه للفنان حامد ندا، وربما كان ذلك هو السر في نصيحة الجزار لي بالعمل عليه. كان الجزار يعتقد أن أمراً كهذا من شأنه أن يثير حفيظة ندا، وكانا نجمين كبيرين في ذلك الوقت واثنين من أبرز أعضاء جماعة الفن المعاصر التي كانت تضم مجموعة من أهم الفنانين على الساحة المصرية في فترة الستينات من القرن الماضي، ولم تكن العلاقة بينهما تخلو من المنافسة والندية، غير أن ندا لم يشعر بأي نوع من الحرج في اختياري لموضوع «الزار»، بل على العكس تماماً، فقد شجعني على مواصلة المشروع وتنفيذه، وأطلعني على مشروع التخرج الخاص به وكان في غاية الروعة. كيف ترى تأثير كل من ندا والجزار في أعمالك وقد كنت على مقربة من تجربة كل منهما؟ - كانت علاقتي جيدة بحامد ندا، وهو من الفنانين الذين تركوا أثراً في نفسي وتجربتي. وفي رأيي، هو أكثر تميزاً وإبهاراً من ناحية التشكيل مقارنة بالجزار، فعناصره ليس لها شبيه. أما الجزار فقد كان المضمون لديه أقوى من الشكل بكثير، وكانت علاقتي جيدة به هو الآخر، كنت أعمل معه أحياناً في تنفيذ بعض الأعمال، ونفذت له لوحته الشهيرة في متحف الفن المصري الحديث عن حفر قناة السويس، وهي لوحة ذات حجم كبير وتعدّ من أشهر أعماله... كانت أعماله دائماً تلمس شيئاً ما في داخلي. وقربي من ندا والجزار جعلني أتعرف إلى نقاط القوة في أعمالهما ونقاط الضعف أيضاً، فكنت أحاول دائماً أن أتجاوز نقاط الضعف هذه بالاهتمام بالشكل والمضمون في الوقت نفسه، وحتى اليوم لديَّ اهتمام كبير بالمضمون ولكن مع الحرص الشديد على ألا يطغى أبداً على شكل العمل وبنائه. يصنف البعض أعمالك تحت مسمى السوريالية، فهل تعتبر نفسك من السورياليين المصريين؟ - أنا ضد هذا تماماً، فأنا لست سوريالياً، فالسوريالية هي عبارة عن هلوسات العقل الباطن، وتنطوي على أشياء غير مفهومة ومثيرة للدهشة، وأنا لست على هذا النحو، فأعمالي ليست هلوسات باطنية. ولست رمزياً أيضاً لأنني لا أطبق الرمزية بحذافيرها، ولا يستوقفني الرمز كثيراً. وفي أعمالي قد تجد ملمحاً سوريالياً، وملمحاً رمزياً أو تعبيرياً، كلها موجودة من دون أن يطغى أي منها على الآخر. ولكن إذا أردت تصنيفي، فأنا أميل عادة إلى وصف أعمالي بأنها تنتمي إلى ما أسميه «المدرسة المصرية»، فأنا أكمل مسيرة في فن التصوير بدأها قبلي آخرون مثل محمود سعيد وراغب عياد وتحية حليم وحامد ندا وعبدالهادي الجزار. والمدرسة المصرية هي توجه ثقافي خاص أؤمن به وكتبت عنه كثيراً، فلم يكن الجزار سوريالياً كما يحلو للبعض أن يصفوه، بل كان واقعياً، ولكن في صياغات مبالغة، وكذلك كان حامد ندا، ولكن بعض النقاد دأبوا على إدراج كل عمل غامض تحت مسمى السوريالية، من دون معرفة واضحة بمفهوم المصطلح. الطائر والمرأة والهلال، هي مفردات تتكرر كثيراً في أعمالك، فهل لتلك العناصر دلالات خاصة لديك؟ - الطائر في أعمالي دائماً له صلة بالقدر، حين ينقض، أو يحوم، أو يفرد جناحيه على شيء ما. أما المرأة فهي رمز لأشياء كثيرة، وهي عندي تحمل شيئاً من سر الكون. أما الهلال، فعلاقتي به تعود إلى مرحلة الطفولة وهو مرادف للحنان والاحتواء. كان للقرية تأثيرها الواضح في أعمالك، فما سر ذلك؟ - طفولتي في القرية كان لها تأثير كبير بلا شك في تجربتي، فذلك الخلاء الغامض، والمقابر، والليل والقمر والنخيل، كلها عناصر ذات تأثير كبير، أعطتني إحساساً بأن ثمة حياة أخرى وراء هذا الوجود، وأن هناك عالماً غامضاً لا أدري طبيعته. وقد تحول هذا الغموض في ما بعد إلى غموض كوني. وهناك تجربة خضتها مثلت أول احتكاك لي مع الموت حين توفيت أختي الصغيرة فجأة، فأثار هذا عندي مزيداً من التساؤل حول طبيعة الحياة والموت وأشياء من هذا القبيل. كانت هذه المشاعر والتساؤلات تُختزن داخلي لتخرج في ما بعد في شكل عفوي. مثلت السبعينات وبداية الثمانينات مرحلة التشكل بالنسبة إلي، فقد كنت أبحث عن شكل وأسلوب خاص بي نابع من الطبيعة المصرية، فلم أكن أريد أن أسير على درب أو أسلوب لا ينتمي الى بيئتي التي خرجت منها. وفي سياق بحثي عن تلك الخصوصية اكتشفت القرية، فكنت كما أنني أعود من جديد لأصولي وذكريات طفولتي، كانت القرية تسكن في داخلي من دون أن أدري. وثمة مفردات ظلت عالقة بالذاكرة وجدتها تخرج على الفور من تلقاء نفسها، بخاصة ليل القرية، الذي كان يستثيرني بغموضه الممتد بلا نهاية. كان القمر وحده هو الذى يضيء السماء قبل أن تعرف أضواء الكهرباء طريقها إلى قريتنا. ودائماً ما أتذكر القرية على هذا النحو: أضواء قليلة وظلال ممتدة. لقد عدت إلى هذا الماضي لأستقي منه أشكال لوحاتي ومفرداتها وعناصرها، وهو موضوع مصري خاص له صلة بالحياة المصرية، ولم يتطرق إليه أحد من قبل على هذا النحو، فدائماً ما كان الفنانون المصريون يتناولون القرية بشيء من المباشرة، كمشاهد العمل في الحقل، ولم يتطرق أحد إلى ليل القرية كما كان يرتسم في داخلي بما فيه من غموض وأساطير وحواديت وأشباح وجن ومردة. لقد تمسكت بهذا العالم واغترفت منه لسنوات، واكتشفت أن ذكريات الطفولة لها تأثيرها القوي في المبدع، وربطت القرية كما هي في المخيلة بالوضع الحالي وبالشكل المعاصر للوحة. وكانت القرية لدي دائماً نموذجاً للوطن، الناس فيه تئن وتبتهل، فقد كان لدي نوع من التعاطف والرثاء لحال المصريين، وكان المشهد السائد هو حالة التضرع التي خيمت على كثير من الأعمال، لأنني كنت أرى وقتها أن لا مجال لتغيير هذه الحال سوى بمعجزة حقيقية. هل تحمل المرحلة المقبلة شيئاً آخر غير هذا الرثاء بعد الثورة المصرية؟ - تأثرتُ بشدة بما حدث. تأثرت إلى حد البكاء، فقد كنت سعيداً لأنني عشت هذه اللحظة. فحتى فترة قريبة، كنت أقول إن الشعب المصري انتهى، وهناك عوامل وأسباب كثيرة كانت تدفعني إلى قول ذلك، ولكن ما حدث غيّر هذا تماماً. بكيت بالفعل عشرات المرات، فلم أكن أتخيل أن هذا سيحدث. أما نتيجة هذا التأثر على أعمالي فلا أعرفها حتى اللحظة. لن أدعي أنني أخطط من الآن لتنفيذ عمل ما، ولكن مما لا شك فيه أن هناك مردوداً ما سيظهر، لا أعرف حتى الآن طبيعته أو ملامحه.