لم استطع أن أمنع نفسي عن عقد المقارنة بين مشهدين، كلاهما مأسوي من جهة ومضحك من جهة أخرى... الى درجة البكاء: المشهد الأول حدث في إحدى العواصم العربية المكتظة، وهو بسيط ومثير في آن. والمشهد الثاني جرى في مزرعة "واي" قرب العاصمة الأميركية واشنطن. الأول كان لرجل في عاصمة عربية يمشي وسط الشارع المزدحم بالسيارات، حاملاً في يده هاتفاً نقالاً، أو محمولاً كما يسمى، مشغولاً بمكالمة مطولة - وهو مظهر للمقدرة والغنى في العواصم العربية اليوم - فجاءت سيارة مسرعة وهو "مشغول" يتحدث على الهاتف فأردته قتيلاً في لحظة. وعندما جرى بعض المارة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تبين أن الرجل قد فارق الحياة، وأن التليفون المحمول ما هو إلا "لعبة" تظاهر الرجل أنه يجري حديثاً مهماً بها. لقد فارق الحياة وهو متمسك بالمظهر الشكلي. ذلك بالضبط ما حصل للمفاوض الفلسطيني في مزرعة "واي بلانتيشن". فالمراقب لتفاعلات الأيام القليلة السابقة على ساحة الصراع أو السلام الاسرائيلي - الفلسطيني، لا يمكنه إلا أن يلاحظ أن الذي حدث هو زرع للصراع الذي تظاهر الجميع بأنه سلام. فما أشبه المظهر الأول بالثاني. مشهد توقيع الاتفاق كذلك يوحي بشيء آخر، قد يكون رمزياً أيضاً: فممثلو الجانبين الاسرائيلي والأميركي في عنفوان الشباب والنضارة، فيما ظهر ممثلو الجانب العربي وهم مرضى كهول، والصحة والمرض هما من عند الله. ولكن الرمز هنا يشد المتابع ويعطيه مجالاً للتفكير والمقارنة في موقفين، موقف التجديد والفرز عن طريق تداول السلطة، وموقف الإبقاء على قيادات شابت وكبرت. لقد شمر الجانب الأميركي عن "الكاجوال" كما يفعل عادة في مثل هذه المناسبات. فقط ياسر عرفات ظهر في كل المواقف والمناسبات بملابسه التقليدية يشيع المحيطون به أنه لا يملك غيرها. والتساؤل: لماذا هذ الإصرار الأميركي على المشاركة بهذا الزخم وهذا الحجم، وهذا الإلحاح؟ ولماذا كل هذا التهافت العرفاتي وهذه الشكوى التي أظهرتها كلمته المطولة في احتفال التوقيع؟ ولماذا كل هذا الصلف الاسرائيلي والمراوغة، وأخيراً المماطلة في وضع الاتفاق موضع التنفيذ بمجرد عودته الى الأرض، أرض المواجهة والصراع الطويل؟ كلها أسئلة لا تقل أهمية - في خضم المسيرة الطويلة للصراع - عن الاجابة، وفي مجال الواقع تكون الأسئلة هي الأبواب التي تفتح على الاجابات. الحضور الأميركي المكثف ليس هدفه الرغبة في الإفلات من تبعات فضيحة مونيكا، كما أنه ليس من أجل كسب الأصوات في الانتخابات التي تلت تاريخ التوقيع على الاتفاق، بل هو جزء من متطلبات استراتيجية أميركية. فالنظام الأميركي ليس جهازاً من العالم الثالث يمكن اختزاله بشخص الرئيس وتوجهاته الشخصية، فللولايات المتحدة مصالح ضخمة في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط، وهي تشعر في السنوات الأخيرة بحجم متعاظم من المسؤولية الدولية، وتتابع صراعاً ينزف كل هذه السنوات، وهو من هذا النوع غير القابل للحل، فإما أن يكون ثانوياً غير مهم فيجري تجاوزه، كما يحدث في الاستراتيجية الحربية: ان كان العدو غير فعال تجاوزه الى عدو فعال، واما أن يكون مهماً فيجري العمل على حله. لقد اتخذ قرار منذ كامب ديفيد بأن يجري حل هذا الصراع، وان تقوم الولاياتالمتحدة بدفع ثمن الحل، ومن لم يلتفت الى ذلك الخيار الاستراتيجي واختار أن يأتي متأخراً فليس أمامه إلا أن يحصل على بقية من فتات الاتفاقات، واتفاق واي بلانتيشن من هذا النوع الأخير. في هذا الاتفاق هناك تطور جديد ولافت، وهو حضور مكثف للمخابرات الأميركية على الساحة الفلسطينية، وهو حضور للاستراتيجية الأميركية التي ترى في العنف والاضطراب و"الارهاب" عوامل لعدم الاستقرار في المنطقة، وهي منطقة - كما قلت - تحوي مصالح حيوية للعالم وللولايات المتحدة، فهي منطقة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية من البحر الأبيض حتى بحر قزوين. والولاياتالمتحدة - بل والعالم - ينظر للاقتصاد نظرة شديدة الانتباه وربما الفزع، بعد سقوط أوراق مهمة من أغصان شجرة الامتداد الاقتصادي الأميركي عبر القارات. كمد وحسرة نتانياهو أثناء توقيع الاتفاق ومماطلته في التنفيذ بعده، اضافة الى شكوى ياسر عرفات العلنية في كلمة حفل التوقيع، هما دليل اضافي على أن الرغبة الأكبر التي تحققت في مزرعة واي لم تكن اسرائيلية أو فلسطينية بقدر ما هي رغبة أميركية. فالطرفان يعرفان أن أي عناد في التوقيع على شيء ما يعرض موقفهما للخطر، فوقع الطرفان الاتفاق على أمل أن تتحقق معجزة في التنفيذ. لقد استخدم الطرف الأميركي "العقلانية والبرود" في النظر الى مطالب الطرفين، أمام يمين اسرائيلي شرس هو الذي أوصل نتانياهو الى الحكم وله مطالب في التوسع، وإجحاف بالحقوق الفلسطينية الأساسية التي أهدرت. وبقي الطرفان أبعد مما كانا قبل الاتفاق، خصوصاً انهما غير قادرين على تنفيذ كل ما اتفق بشأنه على أرض الواقع. إرجاء نتانياهو إقرار الاتفاق بمجرد وصوله الى اسرائيل، يعكس بالتالي نظرة "محلية" اسرائيلية لا تتسق مع الرؤية الأميركية الشاملة للمنطقة والعالم، وهي نظرة لليمين الحاكم في اسرائيل ليست جديدة ولا مفاجئة، إلا أن خطورتها في انها ستحاول ان تتنصل من اتفاق شهد عليه الرئيس الأميركي، وهي مغامرة قد تدفع اسرائيل اما الى تغيير التوجه الأميركي من الداخل، أو الذهاب الى انتخابات مبكرة، أو اثارة اضطراب قريب من الحرب في المنطقة، وكل هذه الطرق من أجل التنصل من الاتفاق الذي هو غير مقبول من كثير من الفلسطينيين. لقد وضعت السلطة الفلسطينية في موضع صعب بعد هذا الاتفاق، بل ربما مستحيل. فالمطلوب منها أن تقوم بما عجزت عنه اسرائيل في السابق بكل قوتها العسكرية وهو قمع الفلسطينيين في الداخل وكف أيديهم. وربما بدا ذلك سهلاً عندما نظر إليه عرفات وهو في واي بلانتيشن، ولكن الأمر أكثر صعوبة وهو في غزة، أو متنقلاً بين القرى والمدن الفلسطينية التي هي تحت سلطته، والتي يواجه قاطنوها صنوف الضغط الاسرائيلي اليومي والحرمان الاقتصادي غير المسبوق في شدته وبؤسه، مع تعنت بوليسي ورقابة على الأنفاس من السلطة ذاتها. قد يؤدي ذلك الى شبه حرب فلسطينية منظمة أو غير منظمة، ويكون عرفات قد فقد كل أوراقه في الضغط والإغراء والمناورة. ما هو مطلوب منه هو أن يخير الشعب الفلسطيني بين وعود لا تتحقق، وبين حرمان من الحقوق الأساسية للمواطن، وهذا أمر لم يواجه أصعب منه في أحلك أيام القضية. إذا عدنا الى القصة الأولى في سردنا الأول، وهو الرجل الذي قتل في الطريق دهساً بالسيارة لأنه تظاهر بالحديث في التليفون الذي تبين أنه لعبة، وقارناها بما سيحصل لعرفات، فسنرى أنه لن يحصل على الأرض التي أراد، وربما سيشعل حرباً أهلية فلسطينية يعرف بعدها أن الوعود التي أعطيت له على قلتها وهشاشتها كاذبة، كما هو التليفون - اللعبة لدى الرجل القتيل. ومن المفارقات ان اسم المكان الذي جرى فيه التفاوض اسم لمجهول ويعطى عادة حرف ال "اكس" أو "الواي" للدلالة على المجهول من الأمور، فيا لها من رموز تفصح أكثر مما تخفي. * رئيس تحرير مجلة "العربي" الكويتية