قال صاحبي وهو يفتح عينيه على سعتهما: ان أردت الحقيقة، فلن تجدي قط من يكتب أدباً مثلما نكتب نحن العراقيين! كنت احك جلدة رأسي لكي استوعب تلك اللحظة الدراماتيكية التي تبدلت فيها سحنته كمن يستقبل رؤيا غريبة. تحول وجهه الى جهة بعيدة وفتح منخريه ليعب هواء العصور. كان يهذي عن ملاحم اجداده منذ سومر وبابل وحضارة العباسيين، حيث تجد دائماً الثقافة العراقية روحهم تسري في نسغها، اولئك الاصدقاء ! الذين عبروا رأسه في دقائق مجهدة كما تخطر الاشباح في افلام هيتشكوك. همس بعد ان تأكد خلو المكان من الناس: "بيني وبينك، مدينتنا بالذات، هي التي انجبت خيرة بناة العراق". كنت اخبيء ضحكة صبرت عليها طويلاً لتتطاير في وجهه المنفعل رذاذا. تذكرت تلك المدينة، مدينتي التي هي مدينته، حيث يشطر جهتيها مستنقع بنغلاديشي يفقس في حوليات الحر والاهمال بيوض الفقر والغبار. وفي ما يشبه الدفاع عن توازن يحفظ رأسي، واسيت نفسي بمقال قرأته لكاتبة لبنانية تقول فيه: "نحن - اي اللبنانيين - شعب متواضع نقبل انتقاد العرب لنا، لأننا لا ندرك تميز ادبنا وحضارتنا بينهم، مثلما لا ندرك قيمة الذات اللبنانية التي تجد نفسها دائماً في الطليعة دون ان تدري، بما جبلت عليه من مواهب لا تبارى"! علي اذن ان اخبيء خجلي بعبي، وأنا استمع الى مواطن من بلدي، اديب وشاعر، يقول هذا الكلام العاطل. فقبل هذا الوقت بكثير قرأنا عن عبقرية الجغرافيا التي صنعت مصر على ما عليه من نبوغ. وفي كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" يبدأ طه حسين تلك النزعة الشوفينية التي قدمت دروساً في التعالي على المحيط. وهي النزعة ذاتها التي استبدلت العقل الاوروبي انتساباً، بمحيط عربي تقوده كالقطيع، لتصنع في النهاية اكبر هزيمة حققتها جغرافيا الغرور في الخامس من حزيران المشهود. من قال ان ادبنا لا يتعلم فصاحته من حكامه، فقد اخطأ الظن بعبقرياتنا الى الأبد