في سياق القضايا والمسائل الجدالية المهيمنة على الفكر العربي في المرحلة الراهنة يستأثر "الغزو الثقافي الغربي" بحيّز واسع واساسي من اهتمامات المثقفين العرب، اذ قل ان تخلو مطبوعة ثقافية عربية من الاشارة الى الخطر الذي يمثله هذا الغزو على "قيمنا الروحية وخصوصيتنا الحضارية المميّزة"، حتى ان نبيل دجاني رئيس دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في الجامعة الاميركية في بيروت، رأى في دراسة نشرت حديثاً في مجلة "المستقبل العربي"، ان التلوث الثقافي والاعلامي يجب ان يعطى أهمية اكبر من تلك التي نعطيها لتلوث البيئة الطبيعية. اذ ان وطننا العربي لم يبلغ مرحلة متقدمة من التصنيع، ولكننا بالتأكيد بلغنا مرحلة متقدمة جداً من استيراد التقنيات الاعلامية التي لها الاثر الاكبر في تلويث ثقافتنا وعقول أطفالنا وشبابنا. ولعل هذا ما حدا بمحمد عابد الجابري الى اعتبار الغزو الثقافي الغربي شكلاً جديداً من اشكال الاستعمار، هدفه تخريب الهوية الوطنية وتفتيت الثقافة القومية وإخضاع النفوس من خلال تعطيل فاعلية العقل وتكييف المنطق والقيم وتوجيه الخيال وتنميط الذوق وقولبة السلوك، ما يشكّل اختراقاً للخصوصية التاريخية للامة ولتراثها وجذورها، يكرّس الثنائية والانشطار في المجتمع العربي ويغذّي عوامل الحرب الاهلية. ومن هذه الزاوية بالذات تعامل الاصوليون مع العلمانية والديموقراطية وحقوق الانسان بوصفها اختراقات ثقافية شاذة يجب رفضها ومواجهتها وعدم القبول بنتائجها وموجباتها. ان التقليل من أهمية هذه الأطروحات والنظر اليها على انها من مظاهر التعصب والانغلاق لا يعيران الثورة الاعلامية المعاصرة ما تستحقه من الاهمية. فقد بلغ تطور تقنيات الاعلام في الربع الاخير من هذا القرن حداً مذهلاً تحطمت معه الحدود القومية حتى غدا كوكبنا وكأنه قرية كبيرة موصولة ببعضها بالموجات الضوئية والصوتية التي باتت تغطي 90 في المئة من أصقاع الارض، ولقد اصبح في وسع الاعلام ان يكيف أذواق الناس، وان يكوّن ثقافتهم من خلال البرامج الموجهة والمعلومات المكثفة بواسطة الكومبيوتر والانترنت. واذا علمنا ان الاعلام العالمي المنتج للمعلومات والموجّه لها، تهيمن عليه الوكالات الاعلامية الغربية العملاقة كالاسوشيتدبرس واليونايتدبرس وسي ان ان ووكالة الصحافة الفرنسية الى جانب الصحف الكبرى مثل نيويورك تايمز والواشنطن بوست والتايم والتايمز والغارديان وصنداي تايمز ولوموند وديرشبيغل وغيرها، لرأينا ان الغزو الاعلامي والثقافي الغربي ليس افتراضاً وهمياً بل خطراً حقيقياً داهماً. فما تمارسه هذه الوسائل الاعلامية من تكييف وتشكيل للمفاهيم والقيم يبدّل الوقائع والحقائق بما يتناسب مع مصالح الغرب واستراتيجياته الاقتصادية والسياسية. ويمكن ان نأخذ دليلاً على هيمنة الغرب الثقافية، ما تبثه الوسائل الاعلامية العربية من البرامج والمعلومات. فقد دلّت احصاءات اليونسكو الى ان شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث، كما في سورية ومصر، ونصفه كما في تونس والجزائر. اما في لبنان فتبلغ البرامج الاجنبية 69 في المئة من مجموع البرامج الثقافية. ويضيف الانتشار الحثيث لاجهزة الاتصال بالاقمار الصناعية - الدش - إمكانات اخرى مستجدة لبث وتعميم الانماط الفكرية والثقافية الغربية وتوسيع نطاق الغزو الثقافي. ونتطلع من حولنا فلا نرى الا منتجات الحضارة الغربية وإنجازاتها تغطي كل مساحات تعاملنا اليومي وحاجاتنا الانسانية، وتتوغّل في صميم واقعنا الى حد لا يبقى معه اي معنى لكل أوهام الفرادة والذاتية والخصوصية. لكن هل يكون ذلك سبباً للامتناع عن قراءة الصحف والكتب وسماع المذياع ومشاهدة التلفزيون كما يريد غلاة الأصوليين؟ هل نحرّم استيراد كل إنجازات العقل الغربي وابداعاته واختراعاته "كي لا نلوّث عقولنا وثقافتنا"؟ هل نصم آذاننا ونعصب عيوننا ونغترب الى التاريخ السحيق كي لا نسمع صوت التطور الهادر ولا نرى حركة الكون الجارفة تحطِّم كل الثوابت والسواكن والبداهات الرتيبة؟ هل سنبقى نفتش لنا عن ملاذ خارج الزمن يقينا عواصف التحول والتبدل والانقلاب؟ ولم التشاكي والتباكي ازاء ثورة الاتصال وتوغل الثقافة الغربية الى عالمنا العربي الذي ظل قروناً طويلة مغلقاً على بلادته وجموده وخرافاته واعرافه القاتلة؟ أي قيم هي تلك التي نخشى ضياعها وسقوطها؟ هل هي قيم الاستبداد السياسي والتسلط العقائدي ورفض الآخر وعدم الاعتراف بحق الاختلاف واضطهاد المرأة؟ هل هو التخلّف المقيم في مدننا وأريافنا أم هي الامية المعششة في أذهاننا والمهيمنة على مجتمعاتنا؟ هل هو تقاعسنا عن المشاركة في ثورة العصر أم هو فشلنا في تحسس نبضه وروحه ومواكبة مسيرته؟ هل في قتل السائح البريء الذي قصد مسالماً ديارنا ام في ارهاب المرأة وإقصائها نحافظ على "فرادتنا"؟ هل في طعن مفكرينا ومبدعينا بالسكاكين الصدئة وإرهابهم وتشريدهم ننقذ "ثقافتنا المهددة" من الغزو والتلوث؟ لنعترف ان حضارتنا في مأزق لانها عجزت منذ قرون عن تجديد نفسها وتطلعاتها. لنقر اننا ضعفاء في عالم يكتب تاريخه الاقوياء. ألم نغزُ نحن أوروبا بثقافتنا يوم كنا أقوياء؟ بل لماذا نسمي التفاعل الحضاري "غزواً" و"تلوثاً؟" اذا كان لحضارتنا وثقافتنا ان تقاوم غزو ثقافة الغرب فلنبدع قيماً أرقى من قيمه وثقافة متقدمة على ثقافته وحضارة متفوقة على حضارته والا فما ذنبه اذا كنا نصر على تخلفنا وجمودنا وعجزنا؟. لست لأبرر مطامع الغرب واستعلاءه او أدافع عن جرائمه وتسلطه. فصحيح ان الغرب قد جاءنا ومعه العدوان والنهب الاستعماري، لكن صحيح ايضاً انه حمل الينا الفكر العلمي والعقلانية والدولة القومية والمجتمع المدني وحب العمل والبناء. فليست الا خطيئتنا اننا قد أغفلنا ما به نقاوم بهبه واستعماره. فليكن "الغزو الثقافي" الغربي "الصدمة الكهربائية" المنقذة من نهايتنا المحتومه. ولتهب علينا رياح الغرب من كل الجهات. لتغزُنا ثقافته ولتستفزنا قيمه فربما كان في ذلك خلاصنا ويقظتنا من سبات طال وطال حتى كأنه الموت!