المكان هو "قاعة نابليون" في "كافي رويال" في شارع ريجنت. والزمان هو 30.9 مساء الاربعاء 3 كانون الاول ديسمبر الجاري. كانت المناسبة حفلة العشاء السنوية التي تقيمها غرفة التجارة العربية - البريطانية. وكان الصوت غير المتوقع هو صيحات الاستهجان والسخرية التي اطلقها كثيرون بين حوالي 500 من رجال الاعمال الاثرياء العرب والبريطانيين الذين كانوا فرغوا لتوهم من تناول طعام العشاء. ولم يكن ضيف الشرف والخطيب الذي اثارت كلمته رد الفعل الغاضب هذا سوى ديريك فاتشيت عضو مجلس العموم ووزير الدولة في وزارة الخارجية المسؤول عن الشرق الاوسط. فما الذي جرى؟ هناك العديد من المسؤولين داخل وزارة الخارجية ممن يظهرون تفوقاً في اعداد الكلمات التي يلقيها وزراء في مثل هذه المناسبات الاجتماعية الرسمية وانجازها على اجهزة الكومبيوتر. ويمثل هذا جزءاً هيناً من مهماتهم اخذاً في الاعتبار خلفيتهم الاكاديمية وتخرجهم بتفوق من كليات مرموقة مثل "باليول" في اكسفورد و "كينغز" في كامبردج. فالامر يقتضي الحصول على الكلمات التي القيت في المناسبة في سنوات سابقة، ويتولى المكتب الخاص للوزير توفير نماذج من خطبه ومقالاته حول الموضوع المعني، وتُجّمع هذه الاجزاء لاعداد كلمة تستغرق 20 دقيقة. ويعاد كتابتها لاخفاء الوصلات بين المقاطع، ويُشجّع الوزير على اضافة او حذف بضعة تعابير كي يحس بالمشاركة في اعداد النص والالتزام به. ويُسمح له بعدئذ على مضض ان يضيف المزحة المفضلة لديه. قرر فاتشيت، بشكل يدعو الى الاستغراب ويفتقر الى الحكمة، ولاسباب لن نعرفها ابداً، ان يكتب بنفسه المقاطع الرئيسية من خطابه. وربما تكون العلاقات المتوترة بين الموظفين السياسيين والجهاز الديبلوماسي سبباً محتملاً. وعندما القى كلمته في تلك الامسية بدت كما لو انها محاضرة جافة غير ودية، لا تلائم المناسبة والجمهور. فقد افتقرت الى التوازن، وخلت من الاشارات المؤيدة للعرب التي تتضمنها في العادة مثل هذه الكلمات. وتركز موضوعها الرئيسي على تبرير السياسة البريطانية تجاه العراق خلال الاسابيع الاخيرة: "... احد الدروس التي ينبغي ان نتعلمها من القرن العشرين هو ان استرضاء دكتاتوريين فاشيين لن ينجح ابداً، ودائماً". كان بين جمهور الحاضرين كثير من العراقيين، كما ان عبدالكريم المدرس الامين العام لغرفة التجارة اصله من البصرة وعمل كديبلوماسي عراقي. وكما جرت العادة فان الكلمة اُرسلت مقدماً الى غرفة التجارة التي يرأسها اللورد جيم برايور الوزير السابق في حكومة المحافظين. ولُفت انتباه وزارة الخارجية في اربع مناسبات الى الوقع المحتمل لهذه الكلمة على مثل هذا الجمهور. وقبل يوم من القائها اعلن اللورد برايور، في تعليق ينطوي على شىء من السخرية، انه لن يعقْب على الكلمة اذا لم تُغيّر. وتحدث احد اصدقائي الى ديريك فاتشيت صباح اليوم التالي عن الاستقبال الذي لقيه. وكان ضمن ردود الفعل عدم استعداد بعض السفراء العرب الغاضبين لمصافحته في نهاية الامسية. وادعى فاتشيت ان هذا الموقف اثار استغرابه لا ادري لماذا وآلمه الى حد ما. وعلمت انه لا يزال يعتقد ان القاء تلك الكلمة كان مناسباًَ. كانت الازمة العراقية، وهي اول ازمة عالمية كبيرة تواجهها حكومة العمال الجديدة في بريطانيا، في مقدم ما يشغل اهتمامه. وتتمثل وجهة نظر الحكومة، التي جرى التعبير عنها علناً وسراً، في الاحساس بالرضا عن فاعلية التحالف البريطاني - الاميركي وتمكن الدول الاربع الدائمة العضوية في مجلس الامن من التوصل الى إجماع يُقال ان الصين، خامس دولة دائمة العضوية، تعتبر ان العراق بعيد عنها نوعاً ما وان هناك مشاكل اكثر الحاحاً في الداخل. وبالفعل، كان وزراء خارجية الدول الاربع يتباحثون بانتظام هاتفياً، في كل الاوقات اثناء النهار والليل، ونشأت درجة من الثقة يمكن ان تكون مفيدة في المستقبل. هكذا، لعب الروس دورهم، وتراجع العراقيون وعادت اللجنة الدولية الخاصة "يونسكوم" مع بقاء الاميركيين في فريق المفتشين. لكن هل تدرك وزارة الخارجية مع ذلك درجة العداء لكل ما هو اميركي في المنطقة؟ والى حين القاء هذه الكلمة كان فاتشيت، وهو عضو البرلمان عن مركز مدينة ليدز منذ حزيران يونيو 1983، امتاز باداء جيد. وفي حزيران يونيو الماضي كتبت عنه قائلاً: "لقد ابتدأ بداية جيدة. واسلوبه الهادىء والمطلع والودي والبارع يُكسبه اصدقاء". قد يتمكن فاتشيت اذا بذل جهوداً مضنية ان يستعيد مكانته لدى السفراء العرب، والجالية العربية في المملكة المتحدة التي تعد بحوالي نصف مليون، خلال الاشهر الستة المقبلة. لكن ينتابني احساس بان هذا قد لا يحدث. ويرجع ذلك الى ان عمله يأتي على خلفية تضاؤل الاهمية التي توليها حكومة العمال لسياستها الخارجية - على الاقل خارج اوروبا. ولا جدال اطلاقاً بان الشرق الاوسط يُعتبر اقل اهمية مما كان عليه قبل سنة. ولن تفعل بريطانيا شيئاً سوى ان تحذو حذو ما تفعله، او لا تفعله، مادلين اولبرايت على صعيد التعامل مع النزاع العربي - الاسرائيلي.