"مضت فترة كان بعض أعضاء حزب العمال فيها يخشون ان يضعهم الاعتراف بصداقة اسرائيل في صف المرفوضين سياسياً. لكن من بين المؤشرات الى مدى ما بلغه حزب العمال الجديد من التقدم ان تلك الفترة انتهت منذ زمن". هذه الكلمات المؤسفة والغريبة شكلت جزءاً من الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في اجتماع منظمة "أصدقاء اسرائيل في حزب العمال" الشهر الماضي. وجاء الخطاب مباشرة تقريباً بعد الكلمة التي القاها وزير الدولة لشؤون الخارجية ديريك فاتشيت في مناسبة نظمتها غرفة التجارة العربية - البريطانية، وأثارت انزعاجاً واضحاً لدى الحضور وجلهم من كبار رجال الأعمال. أما اصدقاء العرب من البريطانيين الذين استغربوا موقف فاتشيت فضاعف خطاب رئيسه من استغرابهم. وبعد ثمانية شهور من تسلم حزب العمال الجديد السلطة، والتردد المتوقع خلالها في سياسته الخارجية، لا بد من القول ان موقف الحزب من مسؤوليات بريطانيا تجاه الشرق الأوسط يبدو الآن مثيراً القلق. لا شك ان أصدقاء توني بلير سيقولون ان من الخطأ التركيز على خطاب واحد لتوني بلير من بين خطبه وتصريحاته الكثيرة، وان علينا ان لا نفاجأ باتخاذه هذه الموقف عند الكلام امام 75 نائباً ينتمون الى "أصدقاء اسرائيل في حزب العمال". اضافة الى ذلك، كان في الخطاب، حسب النص الذي وزعته دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية البريطانية، رسالة قوية الى اسرائيل يتوقع أن يؤيدها العرب. مثلاً، قوله ان هناك في اسرائيل "قبولاً متزايداً بحتمية قيام الدولة الفلسطينية" وأن "ليس من ضمان لمستقبل المنطقة من دون مقايضة الأرض بالسلام على أساس عادل". هناك بعض الحقيقة في موقف المدافعين، لكن اذا كنت رئىساً جديداً للوزراء وأردت ان تتحدث عن الشرق الأوسط فلا بد لك ان تدرك ان الديبلوماسيين والصحافيين العرب سيدققون في كل كلمة - والواضح انهم فعلوا ذلك ولم يرتاحوا لمضمون الخطاب. ويعمل ضمن جهاز رئاسة الحكومة خبيران ديبلوماسيان اختيرا بعناية للغرض، ولا نعلم اذا كانا اطلعا على الخطاب وعرفا مدى الضرر الذي سيحدثه عندما تقرأه وتحلله العواصم العربية ال21. يشير الأعضاء السابقون والحاليون في "مجلس حزب العمال للشرق الأوسط" الى ان هناك مراحل في تاريخ الحزب يسود فيها التأييد للموقف الصهيوني. وكان هذا هو الوضع تحت قيادة هارولد ويلسون. وكان ديفيد واتكنز من الرؤساء السابقين للمجلس، وهو حالياً أمين صندوق "مجلس تحسين التعاون العربي - البريطاني". وكتب الى رئيس الوزراء بلير محتجاً بشدة على خطابه، خصوصاً على المقطع المذكور مطلع هذه المقالة معتبرا أنه "مضلل". وأضاف ان "اللوبي الصهيوني والاسرائيلي في الحزب يشن الحملات دوما لإخراس كل من يجرؤ على توجيه أي انتقاد الى اسرائيل، ويصل باستمرار الى حد اتهامهم بالعنصرية واللا سامية". المحتمل ان كاتب النصف الأول من الخطاب كان نيكولاس كوزغروف مدير "أصدقاء اسرائيل في حزب العمال"، وكان مؤداه الى حد كبير انك اذا كنت من "حزب العمال الجديد" فالمتوقع ان تؤيد اسرائيل، واذا كنت مؤيداً للفلسطينيين فإنك خارج التيار الرئيسي في الحزب. ويمكن لهذا الايحاء أن يؤثر في غالبية نواب الحزب الذين لم يحددوا بعد موقفهم من النزاع العربي - الاسرائيلي بكل ما فيه من تعقيد. يعرف عن توني بلير توجهه الديني القوي الى درجة انه اراد في شبابه دخول سلك رجال الدين، من هنا فهو يرى في اسرائيل "أرض الميعاد". وما سيستغربه كل من يقرأ خطابه هو الهوة العميقة فيه بين تصوره الايماني لاسرائيل والواقع الحالي. وقال في الخطاب: "كانت اسرائيل لي في شبابي نموذجا لمثل الديموقراطية الاشتراكية". وتحدث عن "التزام حزب العمال التاريخي الأممية ومكافحة شرور العنصرية والعداء للأجانب". لكن لا بد لنا من تذكيره باحتقار اسرائيل الدائم للقانون الدولي، وانها الدولة التي نالت العدد الأكبر من الادانات من الأممالمتحدة. ويعامل السكان العرب داخل اسرائيل على انهم مواطنون من الدرجة الثانية، يعيشون منسيين في قراهم المنسية. أما عن كره الاجانب فما عليه سوى سماع تصريحات وخطب أعضاء الحكومة الاسرائيلية عن جيرانهم العرب، بدءاً بأرييل شارون. لنا ان نقدّر ان مرور الوقت والمتغيرات، اضافة الى المزيد من الخبرة بشخصية بنيامين نتانياهو المنفّرة، قد تؤدي الى تحويل رئيس الوزراء البريطاني عن موقفه الحالي. وكانت مرغريت ثاتشر بدأت عهدها في السلطة مؤيدة قوية للصهيونية ورفضت التحادث مع منظمة التحرير الفلسطينية. لكنها كانت بالغة الذكاء وغيرت موقفها بعد مناقشة الموضوع مع وزراء خارجيتها والقادة الدوليين. وهذا ما سيحصل في النتيجة لتوني بلير. لكن المقلق ان الوقت لم يعد في مصلحة عملية السلام في الشرق الأوسط.