بعد ان تنحسر موجة الخواطر الأولى من قبيل: إن هذا الشبل من ذاك الأسد، او فرخ البط عوّام، او من خلّف ما مات… وبعد ان يزول بعض الأثر الذي تحدثه رهبة الاسم الذي يحمله: عمر منير بشير، تطالعك مشكلة حقيقية. فكيف يمكنك ان تستمع الى عازف العود الشاب هذا، من دون ان تظلمه حين تقارنه، حتى لو لم تشأ المقارنة، بوالده الكبير الذي رحل منذ أشهر؟ او كيف يمكنك ان تستمع اليه باستعداد متحرر من اي قيد، فلا تجعله خيالاً لوالده العملاق. الاسم والقامة يجعلان المهمة شبه مستحيلة. ذهبنا الى "مسرح المدينة" لنستمع الى عمر منير بشير ونحن نحمل في رؤوسنا هذه الحسابات والتحفظات، متحسبين لأي مؤثرات قد تشوّه تقييم هذا العازف الشاب، ومتخوفين في الوقت نفسه من أن تحرمنا هذه التحسبات من متعة الاستماع، وهي الأصل في الموسيقى، وهي الغاية والغرض. قدم عمر منير بشير حفلتين في "مسرح المدينة" بالتعاون مع النادي الثقافي العربي، وتضمن برنامج الحفلة الأولى خمسة مقاطع من العزف المنفرد على العود: 1 - تقاسيم من مقام الحجاز كار. العزف حالم هادىء تأملي متقطع، يتوقف بعد كل جملة صغيرة ليفكر العازف فيما يلي، ويفكر معه المستمع. ثم يتحول المقام إلى الصبا، في مزاج وحشة، ونكهة نواحيات عراقية نموذجية على العود. ويتنقل العزف بين العجم والصبا وهذه سبيكة مقامية تقليدية في أداء غير تقليدي يدفع المستمع دفعاً للمساءلة: أين هو؟ حتى إذا خرج الى جو التقسيم التقليدي ارتاح المستمع واستمتع. 2 - موسيقى "حب وسلام"، وتقاسيم نهاوند، ثم موسيقى "بغداد"، من ألحان منير بشير. يتضح على الفور ان هذا العازف يمتلك قدرة كاملة على التصرف بالعود على مستوى عال من البراعة Virtuoso، ويمتلك في الوقت نفسه إحساساً مرهفاً. غير أن الموسيقى التعبيرية لديه تغلب كثيراً على الموسيقى التجريدية. وقلما يلتقي التعبير والطرب معاً. تتضمن هذه القطعة عزفاً شبيهاً بالعزف الكلاسيكي على الغيتار، من حيث سرعة تنقل اليد اليسرى، وتخصيص كل درجة من درجات اللحن بنقرة من اليد اليمنى في سرعة فائقة، تذكرك بعازفي الفلامنكو الإسبان، مع الزَنّ على الوتر الغليظ باستمرار. 3 - تقاسيم من مقام المخالِف، ثم من مقام أوشار، ثم سيكاه، ثم هزام، فسماعي هزام من تأليف عمر بشير. ومقام المخالف أشبه بالصبا، وهو مقام عراقي، كذلك الأوشار. ولعل أجمل ما في سهرة عمر بشير هذه، سماعي الهزام الذي افتقد آلة رق ربما لتصاحبه بإيقاع السماعي. إذ تبين انه ضروري لاستكمال متعة هذه المعزوفة الجميلة جداً، التي لوّن عمر بشير خاناتها بمقامات مختلفة، منها الراست. 4 - تقاسيم من مقام البشيري، ثم الحجاز، ثم الأودج، فأغنية فوق النخل، من التراث العراقي القديم. ومقام البشيري هو مقام ابتكره المرحوم منير بشير، وفيه مسلمات من العجم والسوزناك وغيرهما. أما "فوق النخل" الرائعة فمعروفة، وقد انتزعت آهات نادرة، في هذه السهرة التي غلب عليها طابع الهدوء والتأمل. 5 - "السنيورة الأندلسية"، معزوفة لمنير بشير، ثم تقاسيم من مقام الحجاز كار كورد على نمط الفلامنكو. بدأ هذا المقطع الختامي بما يشبه مقدمة أنا هويت لسيد درويش، واقترب عمر من المزاج المطرب غير مرة فهو قادر ساعة يشاء على ذلك، لكنه يفضل على ما يبدو المسلك التعبيري الذي يخلو عادة من الطرب، وأبدى براعة عالية في اسلوب العزف على الغيتار الذي يزاوج وترين بنقر متواتر وسريع، وأخرج من العود أيضاً صوتاً أشبه بالماندولين. لكن أعلى درجات ملامسة مشاعر الحضور كانت تلك التي تحوّل فيها الى تقاسيم من الصنف التقليدي الرائع على مقام البياتي - نوى، قبل أن يختم ختاماً مسرحياً متمكناً، بمزاج فلامنكو. اسلوب العزف لا مفر من القول إن عمر تلميذ منير. فهو يسير على نمطه في كل شيء تقريباً: في الشكل أي التقنية على الخصوص وفي المضمون أي المقامات وبنية المعزوفات والتقاسيم. يستخدم عمر بشير تقنيات متنوعة باليد اليمنى، فينقر بالريشة، وبالأصابع أحياناً، وعلى أكثر من وترين احياناً اخرى. اما يده اليسرى التي تدوس على الاوتار، فتتبع سرعة التنقل، على طريقة الفلامنكو كل درجة موسيقية من اليد اليسرى، بنقرة ريشة من اليد اليمنى. أما "الرش" العربي، فهو يترك اللحن على سيره العادي باليد اليسرى، فيما ترش اليد اليمنى كثيراً من النقرات على الدرجة الموسيقية نفسها، وهذه من أجمل تقنيات العزف العربي على العود. ويبدو ان المدرسة العراقية منذ أيام الشريف محي الدين حيدر، استاذ منير وجميل بشير وسلمان شكر والآخرين، فضلت أسلوب النقر لا الرش، ولذا خلت سهرة عمر بشير من الرش، إلا ما ندر. وحفلت بأسلوب النقف، حيث تنزل النغمة مثل نقطة الزئبق، ثقيلة راسية. وقد برع القصبجي بكلا الاسلوبين على اعلى مستوى. كذلك تميل المدرسة العراقية الى تزليق الإصبع على الوتر، في عزف اليد اليسرى. اما المضمون فان جملة عمر بشير في التقاسيم قصيرة، والجمل متلاحقة، تلي إحدى الجمل الأخرى بعد نَفَس وتفكير. والمقام عند عمر بشير لا يستقر، فالسلم الموسيقي عنده حر ومفتوح وكل الدرجات الموسيقية واردة في التقسيمة الواحدة. وفي هذا سيئة وحسنة. فالسيئة هي احتمال أن ينسى المستمع المقام فيضيع المزاج ويعجز الجمهور عن السلطنة. والحسنة هي اتساع مساحات التلوين المقامي واحتمالاته. ولذا فالأمر خطر وصعب، لأن على العازف ان يعرف كل المداخل والمخارج من المقامات وإليها ويبدو ان عمر بشير يمتلك تماماً هذه المقدرة، وعليه في الوقت نفسه ان يُحكّم عاطفته في الارتجال، ليساير المستمع في تجاوبه الوجداني، حتى لا تتسع مساحات التلوين المقامي إلى الدرجة التي تطيّر السلطنة من رأس الجمهور. وفي هذه النقطة بالذات، لا بد لعمر بشير من أن يتعمّق ويجتهد، لأن الغرض والغاية في النهاية هما متعة الجمهور. كذلك لا بد لهذا العازف الكبير، الذي يعزّيك صعوده حيال موت والده الفنان، من أن يغوص في بنية المعزوفة العربية التقليدية، والتقاسيم العربية التقليدية الخالدة لدراسة تكوينها وعلاقة مضمونها بالشكل، ليطوّر موهبته التأليفية والارتجالية، التي تمتلك الآن كل عناصر التفوّق، الا ملكة التلحين والتأليف. فهي قابلة للتطوير، يدل على هذا سماعي الهزام الرائع، الذي كان من أجمل ما سمعنا في هذه السهرة. ولا بد كذلك من مصالحة عراقية مع مصر. الجميع يتحدث عن مصالحة عربية سياسية. وليس هذا المقصود طبعاً! فالحساسيات في الموسيقى سبقت حربي الخليج الأولى والثانية، لكنها اصابت العرب بالضرر كذلك. لا شك في ان الاقاليم العربية تتسم بأمزجة ملونة متنوعة مصدرها الغناء الريفي المختلف والآلات الموسيقية المختلفة والمقامات والإيقاعات المتنوعة. لكن هذه كلها مصدر غنى للموسيقى العربية المدنية الراقية، وجميع هذ العناصر تصب في مستودع واحد، يجب أن ينهل من معينه الموسيقي العربي، سواء في مرحلة الاستيعاب والتكوّن الوجداني والثقافي، أم في مراحل الاطلاع والتزود. وليس منطقياً ان تكون الفنون الاوروبية، الفلامنكو والكلاسيك الألماني والأوبرا الإيطالية، مصدراً للاستلهام لا تحفّظ عنه، وأن تكون المدرسة المصرية في العود وغيره مستبعدة، أو أن يجهل اي موسيقي عربي التراث العراقي الأصيل. لقد كان الجفاء الموسيقي العراقي مع مصر جفاء مع الذات، دفع بعض كبار الموسيقيين العراقيين إلى هجران مواطن الطرب في الموسيقى العراقية ذاتها، ظناً منهم بان الطرب من السمات المصرية الخالصة. والحق ان مصر اذا تفوقت في الطرب وطابعه التجريدي، فإنها لم تحتكره، لأن الطرب من سمات المقامات والإيقاعات وأساليب الغناء العربية. وهذه كلها مشتركة في معظم عناصرها، لدى كل الأقاليم العربية. مصالحة مدرسة العود العراقية مع مصر ومع الذات حاجة وضرورة، وهي مسؤولية جيل الموسيقيين العرب الصاعدين، ومنهم عمر منير بشير. عمر منير بشير ولد في بودابست العام 1970. بدأ دراسة العود على والده، وهو في الخامسة. بدأ دراسة الموسيقى والباليه في بغداد وهو في السابعة. عزف منفرداً للمرة الأولى على العود وهو في التاسعة في المدرسة. تخرج من مدرسة الموسيقى والباليه، فتابع الدراسة في معهد الدراسات الموسيقية في بغداد، وأقام أمسيات موسيقية عازفاً منفرداً على العود. ثم واصل دراسته في تدريس الغناء الجماعي والسولفيج في جامعة العلوم بقسم الموسيقى في المجر. تولى القيادة والتدريب في فرقة البيارق للموسيقى، التابعة لوزارة الثقافة والاعلام العراقية، عند تكوين هذه الفرقة. وقد شاركت الفرقة في مهرجانات عدة، منها مهرجان بابل، ومهرجان الموسيقى العربية في المركز الثقافي القومي أوبرا القاهرة، وغيرهما. قدم أمسيات موسيقية في باريس وهولندا وبازل وجنيف وبودابست وتركيا وروسيا والمغرب وتونس والأردن وسورية ولبنان. أصدر عدداً من الاشرطة منها: ذكرياتي، ووحي العود، ومن الفرات الى الدانوب، مع توزيع غربي.