مرّ العراق الحديث بتجارب سياسية مأسوية كثيرة ساهمت فيها، الأحزاب والتنظيمات السياسية، لا سيما العقائدية، وأيضاً الشخصيات السياسية. ودخلتُ، مع غيري، في معمعات نضالية طويلة وعنيفة منذ 1945، مقدمين التضحيات، ومدفوعين بالنوايا الطيبة، ومقترفين الأخطاء المتتالية. ولعلي من بين أكثر الساسة "المتقاعدين" محاولة لفهم التجربة الماضية، ونقدها ذاتياً واستخلاص الدروس منها، وتدل على ذلك المئات من مقالاتي على مدى سنوات، وكتب سيرتي الذاتية: "حدث بين النهرين" في تجربة القيادة المركزية، و"ذاكرة تحت الطلب"، و"ذاكرة النخيل" و"مع الأعوام" في طبعتين. ومن تهمّه متابعة مقالاتي، ومن ذلك ما على صفحات "أفكار" - "الحياة" يجد محاولة جادة للنظر الى ذلك الماضي، ونقده، لا بأسلوب الستالينيين أمام البوليس، ولا كشهادة بهدلة للذات وتخوين، وانما كمثقف عراقي تهمّه مصلحة شعبه وبلاده، وينبض ضميره بوعي ما قد يكون له من دور في المحن السياسية العراقية. ولست، بالطبع، مسؤولاً عمن لا يقرأ لي، او عمن يقرأ من خلال نظارات متّسخة وذات عدسات مشوهة ومن منطلق العقد الشخصية والأحقاد السياسية، او من يتصدون للتجارب الماضية وكأنهم الأنبياء الطهرة وكأن غيرهم الشياطين. ورأينا نماذج كثيرة من طراز من تحالفوا كأحزاب وقيادات وكتاب وشعراء مع السلطة "تحالفاً استراتيجياً" ولسنوات، ثم نقرأ لهم اليوم وكأن شيئاً لم يقع، وكأنهم كانوا "منذ البيضة" معارضين للنظام وأبطالاً نطاحاً. ومهما يكن عن تجربتي السياسية السابقة التي انتهت عام 1969 بارادتي أنا، فإن التاريخ هو الذي سيحكم على الجميع واستناداً الى البيّنات، والمراجع، والوقائع والتواريخ، وليس استناداً الى التخرصات والأكاذيب والتشهير الرخيص. ان مقالة السيد حسين الموزاني في عدد 16 كانون الثاني يناير 1998 لا تناقش قضية عامة طرحتها في مقالي المشهّر به، وانما تكرست للسباب والتحامل وترديد التقولات البائخة الممجوجة، مع كومة ادعاءات شخصية على سبيل المباهاة والمفاخرة. وإذا كانت كلمة "اخلاص" الواردة في مقالي تستفز صاحبنا لسبب مجهول، فإن في المهاجر عشرات الألوف من العراقيين المخلصين حقاً ولكنهم لا يعانون من داء المفاخرة والادعاء ولا من الموتورية المريضة. والغريب ان كاتب المقال يصف نفسه بالعراقي، الفيلي، المغترب، والشيوعي السابق وكان المفترض ان يرحب بالمقال لاثارته موضوعاً يخص أبناء شعبه، مع احتفاظه بالرأي في صاحب المقال، أي كاتب هذه السطور. فمأساة الفيليين كانت تستحق جزءاً أساسياً من مقال السيد المومى اليه، مع انه همّشها تهميشاً في مجرى الشتائم وتصفية الحساب، والادعاء وكأنه دخل حلبة مهارشة، او مناطحة، وإن لم أكن، ولحسن الحظ، من المهارشين او المتناطحين. ولا أكتم انني كنت أتوقع ردوداً من كَتَبَة نظام فجّر المأساة الفيلية، ومآسي آخرى. اما ان يأتي الرد التحاملي من "فيليّ" و"شيوعي سابق" فإن الدلالة صارت واضحة تماماً، أي مجرد تصفية حسابات معي شخصياً، مع ان المومى اليه قد تجنب سحب انتقاداته على التنظيم السياسي "اليساري" الذي انتمى اليه ذات يوم، والذي تحالف مع السلطة رسمياً سنوات بعد تعاونهما في تدمير حزب القيادة المركزية وعلى أشلائه! وبالامكان فهم مقالة السيد الموزاني لو ان صاحبها سبق له ان دخل تجارب سياسية كبيرة ومثيرة ومعقدة لنعرف هل كان سيتدارك أخطاءنا أمس ام كان سيتجاوزها بنجاح. اما وأن كل تجربته كما يلخصها في انه لم يفعل كذا ولم يفعل كذا، فالأمر يثير الاستغراب. وما أعرفه عنه، انه كاتب قصة قصيرة تردد اسمه في السنوات القليلة الماضية، ولعل من الأنفع والأفضل له لو انصرف الى الابداع والتجويد بدلاً من المماحكات والمهاترات، والمباهاة الشخصية الفارغة. لقد سبق لي ان رددت، وفي "الحياة" نفسها مثلاً عدد 13 نيسان/ ابريل 1997 على بعض الاتهامات المفبركة أصلاً والتي أنتجتها قرائح خصوم سياسيين لم يتركوا وسيلة لم يجربوها في التشهير والتأليب. ومن ذلك قصة موقفي عام 1969، أي ندوتي التلفزية خاصة، ولكن مهما قيل، وبصرف النظر عن ظرفها الاستثنائي القاهر، فإنها ساهمت في انقاذ المئات من المناضلين من السجن والتصفيات، ولا يجهل أمثال الموزاني من الموتورين ان بعض رفاقي هم الذين تسببوا في اعتقالي، وأنني قد اعتقلت بعد ثلاثة أشهر من اعتقال العدد الأكبر من أعضاء القيادة المركزية ومداهمة أجهزة الطباعة والخلايا المسلحة. وعلى كل فقد سبق لي التطرق للموضوع في كتب ومقالات يمكن لمن يريد مراجعتها، وآخرها كتاب "ذاكرة تحت الطلب". وأما تبديل بعض قناعاتي السياسية فلم ينتقص لا من وطنيتي ولا من نزاهة ضميري، على العكس ممن انتهوا الى الاعتاب الأميركية - النفطية! على ان كل هذا لا يقلل من وزن أخطائي، المعروضة من جانبي عشرات المرات. وبصدد عزيز السيد جاسم فاشارتي تخص صيف 1969، أي مقالاته المحمومة التي دعت الى ابادتنا جسدياً ونحن معتقلون، ولم أتطرق الى 1991 ودوره غير الموجود أصلاً في "الانتفاضة". ومع اساءاته لي عام 1969 فقد تعاطفت في أكثر من مقال وكتاب مع المأساة التي انتهى اليها سجن او موت، لا أدري. وأما عن المأساة اليهودية في بداية حزيران يونيو 1941 "الفرهود" فقد كتبت عنها مراراً وآخرها في "حدث بين النهرين" مما أعاد "الملف العراقي" نشره، ولا يخفى دور الانكليز في تلك المأساة، ولا دور المنظمات الصهيونية في تشريد يهود العراق عام 1951، مع انهم عاشوا بيننا محترمين، ولم يهتز المجتمع العراقي لأن وزير المال كان يهودياً لعدة سنوات أو لأن مثقفين يهوداً ساهموا بنشاط في الحياة الأدبية والسياسية بالعراق. كذلك ايضاً مأساة الآشوريين التي تدين الشوفينية العسكرية وايضاً الأصابع الأجنبية التي يحلو للموزاني تجاهل دورها لتبرير شتمه للمجتمع العراقي. والقول بأن العرب أمة واحدة، هو تحصيل حاصل، وتأكيد على حقيقة موضوعية، وأنه لا يتعارض مع واقع ان الأكراد المجزّأين هم أيضاً امة واحدة، كما اوردت ذلك في كتاباتي وعشرات المرات. ولماذا يجب وضع الأمتين في وجه بعضهما البعض!؟ لقد حاولت من تجاربي السياسية والتجارب العراقية عموماً، وأيضاً من تجارب الآخرين، لا سيما منذ انهيار الشيوعية الدولية، استخلاص الدروس، وتصحيح المسار، وذلك بروح النقد الذاتي، واعادة النظر الجادة والمتفتحة. وأما تقييم مسيرتي أنا الشخصية فأمر متروك للتاريخ ولا يمكن ان يتحكم فيه من يريدون لعب دور شرطة التحقيق! والغريب ان الكاتب لا يحاسب حزباً بكامله تحالف مع سلطة البعث لعدة سنوات، برغم كل ما وقع من المآسي لعام 1963، ولكنه يحاسبني أنا الفرد على عودتي الى وظيفة حكومية كنت قد تركت مثلها وفي وزارة التربية ايضاً قسراً ولأسباب سياسية، علماً بأن مئات الشيوعيين وغيرهم أعيدوا الى وظائفهم بعد 1969، ومنهم من تسلموا مناصب وزارية. ولو كانت الهواجس الشخصية، ومنها مقتل شقيقي، رائدي في المواقف السياسية لقفزت الى خانات المعارضات الرسمية منذ 1992 كما فعل آخرون ممن لا يجد أمثال الموزاني ضيراً في مواقفهم الحالية رغم أدوارهم السابقة. ويا للعجب! ويبدو ان الموزاني ومن يشايعه في الأحقاد الصغيرة يسيئهم ان يكتب عزيز الحاج، وفي أي موضوع كان، برغم هجره للعمل السياسي منذ حوالى الأربعة عقود. وهذا من دلالات التخلف السياسي المسؤول عن مصائب العراق، أي الثارات والأحقاد الشخصية والسياسية التي نجد اليوم بعض انعكاساتها الدموية في كردستان العراق. وخلال سنوات طويلة حاولت، ولا أزال، التأمل في كل شيء لاستخلاص العبرة، وللتجديد الذاتي، وهذا ما أحاوله في كتاباتي سواء كانت سياسية او ثقافية وحتى حين اكتب عن علاقتي بالحيوان. وأكيد ان محنة شعبنا تستحق من المثقف العراقي أكثر من شتم الآخر، والنفخ في الذات، وترديد الأكاذيب السمجة. وأكيد ايضاً ان التعقيب المفتعل للسيد الموزاني لا يخدم أية قضية عراقية عامة وانما يدخل في أدب المهاترة والمفاخرة. ويا ليته كتب، بدل ذلك، قصة ابداعية قصيرة عن المحنة، تخلو من تلفيقات بعض "الروايات"، فهذا هو الميدان الذي يستطيع فيه أديب مثله ان يخدم الثقافة العراقية.