تحت عنوان "الأكراد الفيليون - الشيعة، مأساة عراقية يلفها النسيان" "أفكار" - "الحياة" 20 ديسمبر 1997، نشر السيد عزيز الحاج مقالة أراد فيها، من جملة ما أراد، تأكيد "وطنية" الأكراد الفيليين الذين هجرتهم الحكومات البعثية العراقية الى ايران في موجات متعاقبة حتى بلغ عددهم حسب احصائية السيد الحاج أربعمئة الف مهجر، وكذلك الدفاع عن اخلاصهم لبلدهم العراق وادانة الحكومات التي مارست "أبشع الأساليب" بحقهم. يقول السيد الحاج في مقالته ان: "الأكراد الفيلية كانوا يتوزعون على جانبي الحدود بين البلدين، ففي الجانب الايراني الحالي هناك منطقة عيلام، أو بشتكوه التي تضم الملايين منهم، وعلى الجانب العراقي ثمة مئات الآلاف ممن استوطنوا منذ قرون سحيقة في مدن الوسط والجنوب وأريافها وفي العاصمة بغداد، برز منهم المناضلون الوطنيون البارزون، من اجل العراق، والمصلحون والفنانون، والعلماء، وغيرهم، فمنهم مثلاً العلامة الكبير مصطفى جواد والموسيقار سلمان شكر، والساسة كجعفر محمد كريم وشقيقه حبيب محمد كريم سكرتير حزب البارزاني لسنوات طويلة ولطيف الحاج وآخرون…". ويضيف الكاتب "لكن جريمة الأكراد الفيلية وعلى مدى سنوات الحكم الوطني كله منذ تأسيسه في العشرينات كان انتماءهم المذهبي". ويشير الى ان الكثير من العوائل المهجرة في حملة 1971 - 1972 سُبيت ونُهبت ممتلكاتها وسيق الآلاف من أفرادها "غدراً وبلا انذار" ليموت المئات منهم في حقول الألغام أو بسبب الجوع. وقد وضع البعض منهم رهائن في المعتقلات العراقية الى يومنا هذا. ويختتم الكاتب مقالته بالنداء الآتي: "ان قضية الأكراد الفيليين المهجرين والمعتقلين تطرح نفسها كقضية عراقية أساسية وملحة وكمسألة انسانية ملتهبة ولا بد لكل الوطنيين العراقيين المخلصين تبني هذه القضية في المسعى العام من اجل انقاذ البلاد وصيانة سيادتها ووحدة أراضيها وتحقيق المسيرة الديموقراطية فيها". وبما ان السيد عزيز الحاج وجه نداءه الى العراقيين كلهم فإنني اجد نفسي معنياً بالأمر ليس من وجهة انسانية خالصة، وهي أفضل الوجوه حسب اعتقادي، وليس أيضاً بصفتي كردياً أو شيعياً أو جنوبياً أو شيوعياً سابقاً، انما بصفتي عراقياً منفياً احسب نفسي الى حد ما مخلصاً اذا ما سمح لي بذلك تعريف السيد الحاج، برغم انني لم أخدم يوماً في صفوف البعث أو السلطة الحاكمة ولم أشترك في حروب صدام ومغامراته في ايران والكويت وكردستان ولم أكنّ العداء لسورية أو غيرها من بلدان الجوار، فضلاً عن ادانتي للحصار المفروض على الشعب العراقي بقومياته وطوائفه جميعها. ويخيل اليّ ان هذا هو شعور الكثيرين من أمثالي المنفيين والمهجرين مثلما اتضح لي ذلك في الأعوام العشرين الماضية التي تقلب فيها وقبلها السيد الحاج في مواقف حزبية ومناصب رسمية وآراء سياسية تتناقض مع بعضها وتتعارض الى حد الالغاء مثلما نرى في هذه المراجعة. ومع ذلك تبقى صفة "الاخلاص" التي أطلقها الكاتب موضع شبهة والتباس، لأن من المعروف بين العراقيين، وذلك ما أقره السيد الحاج نفسه في مناسبات عدة، وهو ان السيد عزيز الحاج قدم بعد بضعة أيام على اعتقاله في 22 شباط فبراير 1969 راجع "الحياة" 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1994 اعترافات شاملة استهدفت الكثير من رفاقه الشيوعيين في تنظيم القيادة المركزية الذي قاده في ايلول سبتمبر 1967 الى يوم انهياره أمام الجلاد الشهير ناظم كزار مدير الأمن العام آنذاك. وفي هذا الصدد هناك عبارة ذات دلالة أوردها السيد الحاج نفسه في كتابه "ذاكرة النخيل"، بيروت 1993: "أذكر وأنا في معتقل البعث عام 1969 ان جوبهت بعد أيام من اعتقالي بقصة ملفقة فبركها خصومنا من الشيوعيين ماركة الخارج وسربوها الى السلطة والى بعض كوادرنا. وخلاصتها انني أثناء عودتي سراً الى العراق عن طريق صوفيا اعتقلت هناك للتحقيق معي بتهمة علاقة ما بالمخابرات المركزية الأميركية. وكانت الكذبة مكشوفة لمن يعرفون طريق عودتي، وهو براغ - دمشق - العراق، حيث لم أمر بصوفيا أصلاً. وكان ذلك شتاء 1966. ومما فعله هؤلاء أيضاً قبل اعتقالنا وحتى بعد اطلاق سراحنا ربط حركة انفصالنا عنهم بمركز شيوعي مستقل واستقلالي، بالمناورات الاستعمارية المكشوفة أو الى حد ما بالعمالة! وقد تسرب هذا النمط من التشديد المفتعل والتحامل الممجوج والمفلس الى جريدة "الثورة" البعثية نفسها في سلسلة مقالات محمومة ضدنا، وضدي شخصياً كتبها محررها الأول عهد ذاك عزيز السيد جاسم وذلك في شهري أيار مايو وحزيران يونيو 1969، أي في أعقاب اعلاني وزملائي عن أخطاء تطرفنا السياسي ولا سيما في موقفنا العدائي من حزب البعث".ص66 نسي السيد الحاج الاشارة الى ان عزيز السيد جاسم اعتقل "احترازاً" الى جانب مئتين من الشخصيات العراقية المعروفة لئلا يؤلبوا الناس على الحكومة عشية انتفاضة ربيع 1991 وانقطعت آثارهم الى اليوم، ونسي كذلك انه أصبح شخصياً أحد محرري جريدة الثورة أو أحد كتابها الى جانب عزيز السيد جاسم في العام 1969 ذاته راجع "الحياة" 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1994. العجيب في أمر السيد الحاج هو استعداده للعمل السياسي والثقافي المباشر، وبقناعة تامة، مع قتلة أخيه الشقيق عبداللطيف الحاج حيدر الذي سمل البعثيون عينيه وكسروا أضلاعه ودفنوه وأصحابه في حفرة جماعية نبشتها الكلاب السائبة فيما بعد، وسخر جهوده "الفكرية" كلها في خدمة أولئك الذين هجروا عائلته الفيلية الى ايران بحجة أصولهم "الأعجمية المجوسية وعمالتهم لصالح العدو الفارسي". اذن عن أي اخلاص يتحدث السيد الحاج ومن ذا الذي يخاطبه على صفحات جريدة يومية علنية تقرأ في ارجاء العالم كلها ما دامت الأبواب السرية مع النظام مفتوحة أمامه على مصراعيها، وأي مصداقية هذه التي تتيح له التحدث الى العرب والعراقيين ومخاطبة ضمائرهم في قضية انسانية معقدة وحساسة جداً مثل قضية التهجير؟ في الواقع ان السيد عزيز الحاج من الأكراد الأوائل الذين رفعوا شعار "يك ملة عرب" أمة عربية واحدة، وظلوا متمسكين به حتى بعدما انقلب جلادون من طراز ناظم كزار وحسين كامل على نظام البكر - صدام. وهذا بحد ذاته يضع مصداقية الكاتب الحاج موضع الريبة والشك. وحتى لو كان السيد الحاج مقتنعاً، مثلما أكد في مقالته في "الحياة" 1994 من "ان حياة العراق المجتمعية لم تعرف سيادة الروح العنصرية"، باعتبار المجتمع العراقي "مجتمعاً مفتوحاً متسامحاً"، فهو بلا شك واهم جداً في رأيه مثلما كان واهماً في انتمائه الحزبي وتطرفه السياسي وانخراطه السريع في العمل لمصلحة النظام البعثي ومن ثم ندائه الحار الى المخلصين من "أبناء الوطن"! هذا الوطن الذي جعل حياتنا وحياة أهلنا كابوساً مرعباً لا فكاك منه، لعل السيد الحاج لم يدرك بعد ان العراق الذي عشناه وعرفناه نظاماً ومجتمعاً، شأنه شأن أي مجتمع متخلف آخر، مشبّع بشتى أصناف العداء القومي والطائفي والديني والطبقي والحزبي الظاهر والمبطن. بالتأكيد ان مظاهر العنصرية والطائفية منتشرة في العراق وعلى المستويات الاجتماعية كلها يمكن رؤيتها ببساطة لمن يريد الرؤية. ويا ليت ان يمن علينا السيد الحاج ويذكر لنا شخصاً عربياً واحداً يشتغل في مهنة "تلميع الأحذية" - ربما فضل بعض العراقيين العرب تقبيل احذية صدّام على تلميع احذية مواطنيهم - ويا ليت ان يذكر لنا الحاج شخصاً واحداً يعمل في مهنة "تصريف المجاري" لا ينتمي الى الطائفة الكلدانية المسيحية؟ هل ينكر السيد الحاج ان الكثير من أطفال وصبيان العراق يبصقون على الأرض كلما يلمحون أحد أبناء الطائفة اليزيدية، امتهاناً واستهزاء بديانتهم التوحيدية المسالمة التي لا علاقة لها بعبادة الشيطان مثلما هو شائع بين العراقيين؟ هل نسي الحاج وهو من أبناء ذلك الجيل العتيد الذي عرف بروح "التسامح والمحبة والتآخي" ما فعله العراقيون حكومة وشعباً، أو على الأقل الرعاع منهم، بمواطنيهم اليهود في 1941: "فرهود اليهود" بتحريض من رشيد عالي الكيلاني والمتعصبين العرب، وربما بدعم من الحكومة النازية الألمانية التي تعاملت مع الكيلاني وسبقته في هذه الممارسات تحت تسمية مضللة "ليلة البرايخ البلورية"؟ ألم تقدم حكومة توفيق السويدي في 1950 على اصدار قانون التخلي عن الجنسية العراقية الذي شمل اليهود العراقيين وحدهم راجع مقالة عبدالغني الدلّي، "الحياة" 1/7/1995 وصادق عليه مجلس النواب العراقي بالاجماع؟ وهل يمكن انكار المجازر التي ارتكبت بحق الآشوريين في منتصف العشرينات والتي قام بها العرب والأكراد بقيادة بكر صدقي ومعهم الأتراك والفرس للقضاء على المسيحيين في العراق والحملات الوحشية ضد أهالي الكاظمية في 1935 ومجازر عمال النفط في كركوك 1946 وأهالي قضاء الحي في 1956 الذين قصفهم سعيد قزاز رئيس أركان الجيش بالمدفعية الثقيلة، وهل يمكن انكار أحداث 1963 الدامية التي ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء ومنهم شقيق الحاج نفسه، وانتهاء بمجزرة حلبجة 1988 والقمع الوحشي لسكان العراق الجنوبي عقب فشل الانتفاضة؟ صحيح ان العراقيين لم يستخدموا بعد أسلوب "الذبح على الهوية" الذي مارسته بعض الفصائل اللبنانية أيام "الحرب الأهلية" أو تنظيمات المجاهدين الأفغان الذين بدأوا حركتهم تحت ذريعة التحرر من الاحتلال الأجنبي لينتهي بهم المطاف الى شراذم من العصابات الصغيرة، يقاتل بعضها البعض من شارع الى شارع ومن بيت الى بيت، أو انهم لم يفكروا بعد في الطريقة ذاتها التي جعلت بعض الجزائريين يقدمون على ذبح النساء والشيوخ والأطفال الرضع بمتعة ولذة "دنيوية - دينية" ما بعدها لذة. لكن، وهنا أخاطب السيد الحاج بالدرجة الأولى، ليس من الصعب ان يقدم العراقيون على هذه الممارسات ذات يوم، حسبما اعتقد وحسبما حدث فعلاً في الانتفاضة العفوية لعام 1991، ان لم ينتبهوا الى مسألة جوهرية ما زال الكثير منهم غافلاً عنها وهي: لا يكفي للعراقي، مهما كان أصله ودينه، ان يكون معارضاً ليصبح بشكل آلي أفضل من أصحاب السلطة القائمة، انما لا بد له ان يتمعن جيداً في ماضيه وحاضره وتجربته الشخصية وتجربة الآخرين أيضاً، ويتفحص ذاته بروح نقدية سليمة وانسانية وينظر بمسؤولية الى ما آل اليه مصيره الفردي ومصير مجتمعه والوسط المحيط به. الا ان ما نلمسه من مثال السيد عزيز الحاج يشير الى نقيض ذلك تماماً، فهو لم يقم حسب تقديري بأي مراجعة نقدية لمواقفه وأعماله وأفكاره، شأنه شأن القادة الشيوعيين في العالم كله، والعرب والأكراد بصورة خاصة، الذين يبقون دائماً من أصحاب الحق حتى لو انحرفوا عن مبادئهم وأفكارهم من دون ان يفكروا في مفردة الاعتذار مرة واحدة، وحتى لو أدت سياساتهم الى كوارث اجتماعية مثلما أدت المغامرة "الغيفارية" المتطرفة التي قادها عزيز الحاج في نهاية الستينات عندما كان يُطلق عليه لقب "غيفارا العراق" وانتهت به عملياً الى الانخراط في صفوف اعدائه.