عرض عدنان الباجه جي وزير خارجية العراق سابقاً لمسيرة حياته الديبلوماسية والسياسية بما يتوافق وتقديم السيرة الذاتية لأي طالب عمل يبغي الحصول على وظيفة في شركة ما ( كتاب «عدنان الباجه جي في عين الإعصار» الصادر عن دار الساقي). سيرة تميزت بقدرات مهنية وانضباط وتحكيم العقل في التفاوض، عدم الإسراف في الكلام والوصف وارتقاء المناصب بنجاح... ولكن ضاعت الفرصة التي «أستحقها بجدارة»، كما قال، ليكون رئيساً للعراق «مرة واحدة» بعد الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003. وإذ تبدت سيرته في الكتاب بتواريخ تنقلاته في العمل وتدرجه في الحياة، فإنها اكتسبت الطابع الشخصاني، وافتقدت التركيز على مجريات الحياة السياسية التي شهدها بنفسه وعايشها من قلب حدثيتها، سواء في العراق أو في غيره. منها مثالاً حواره مع صدام حسين في المعتقل بطلب من الحاكم المدني الأميركي بول بريمر وبرفقة عادل عبد المهدي وأحمد الجلبي «اللذين حشرا نفسيهما» (كما يذكر)، والشتائم المتبادلة بينهما وبين صدام، وسؤال الباجه جي له عن سبب عدم انسحابه من الكويت على رغم الفرصة التي توافرت له من دون إضفاء نكهة وصفية على اللقاء والمشهد التاريخيين. ومن الوقائع أيضاً حضوره احتفال توقيع ميثاق جامعة الدول العربية العام 1945 في القاهرة من دون التوسّع في سرد تفاصيل تلك المرحلة، ومعايشته أصعب لحظات مصير فلسطين وشعبها في واشنطن ببضعة أسطر عن سيطرة الصهاينة على مواقع القرار فيها وتشرذم العرب، وحكاية اتفاق الملك عبدالله الأول (جد ملك الأردن الحالي) مع بريطانيا على عدم القتال في فلسطين وإطلاق يده فيها كما علم من والده رئيس الوزراء يومها (مزاحم الباجه جي)، ومشاركته (أي مؤلف الكتاب) في مناقشة القرار 242 من دون «أل» التعريف، ومن دون أي توضيح للقارئ وللتاريخ سبب غياب هذه ال «أل»، على رغم إتقانه اللغة الإنكليزية. وأتى المؤلف على ذكر الانقلاب على الملكية في العراق العام 1958 بسطرين يتيمين، مع إشارته إلى معلومات عن التحضيرات للانقلاب المذكور، ثم انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968، عدا عن حلف بغداد و«هدفه محاربة الشيوعية لا قضية فلسطين» كما يقول، وانعدام حصول إعدامات في عهدي الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف (لم يشرح السبب). إن الاختصار في الكلام انعكس على محطات تاريخية - مفصلية كانت تقتضي منه الغوص في خباياها، لما له من سنوات مديدة في العمر وتسنُّم المناصب، وللبيئة العائلية التي ولد فيها (والده مزاحم كان رئيساً للوزراء ومثله والد زوجته علي جودت الأيوبي، إلى شبكة من العلاقات الأخطبوطية)، لإعطاء القارئ وقائع تشفي غليل التساؤلات التي لا تزال تجري في عروق حقبات ما بعد نيل الدول العربية استقلالها الوطني المشوب بعبء الشكوك والريبة والضبابية والتكاذب المخلوط بلغتين ومضمونين وخطابين، واحد للعوام وثان للعموم (مرحلة نكبة فلسطين وما بعدها). لقد عاش الباجه جي سنوات في أروقة الأممالمتحدة وكواليسها، وفي خضم أزماتها العالمية وحربها الباردة بين الجبارين الأميركي والسوفياتي، واطّلع على مجريات أخطر حقبة في النصف الثاني من صراعات القرن العشرين، فاكتفى من محاضر الجمعية العمومية في دورتها ال 15 الشهيرة بأن يقول إن سبب ضرب الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف بحذائه على الطاولة يوم أزمة الصواريخ مع كوبا هو الفودكا التي تناولها بكثرة في ذاك اليوم. لأول مرة! في 335 صفحة من الكتاب ترد عبارة «لأول مرة» في سياق حياة مؤلف الكتاب مرات عديدة، انتهت إلى ضياع فرصته في أن يكون رئيساً للعراق لمرة واحدة، وهنا ابتعد عن لغته الديبلوماسية واتهم منافسه غازي ألياور بالعمالة (فاز برئاسة العراق ضده). ولد عدنان الباجه جي في 14 أيار (مايو) 1923 بعملية قيصرية كانت الأولى في العراق، وفي مستشفى كان الوحيد في بغداد، فكان الابن الأوحد لوالديه. اختزنت ذاكرته مرحلة طفولة مشبعة بالاهتمامات، فدخل دور السينما في بغداد التي يصفها بالقرية المتخلفة يومها (في الثلاثينات). وكان أن شاهد عاشوراء للمرة الأولى وكان يحيي مجالسها الفيلية الأكراد، إلى رحلته الأولى إلى لبنان ومشاهدته البحر للمرة الأولى، فلقاؤه الفتاة التي أغرم بها من النظرة الأولى وأصبحت زوجته لاحقاً، ليكون المدني الوحيد في طائرة من نوع «داكوتا3» أقلته إلى سفارة العراق في واشنطن العام 1945، ولقاؤه الملك فاروق للمرة الأولى والأخيرة، إلى إلقائه كلمة في الأممالمتحدة «لأول مرة»، ومشاهدته التلفزيون «لأول مرة» في امستردام أثناء عرض احتفال تتويج الملكة إليزابيث الثانية، إلى العديد من الأحداث التي حصلت للمرة الأولى. غابت القيمة المضافة عن صفحات هذه الذكريات أو المذكرات، وتغلبت عليها تواريخ الأيام والسنوات ويوميات جهوده في الأممالمتحدة، بتسلسل زمني، وأرقام قرارات أممية، مع أن دوره كان محورياً في جهود الأممالمتحدة لتسريع مسيرة الدول الخاضعة للاستعمار في أفريقيا إلى الحرية ونيل الاستقلال (منتصف القرن الفائت). تنقسم حياة الباجه جي السياسية والديبلوماسية إلى شق عراقي رسمي بدأه العام 1944 في وزارة الخارجية وتقاعد منه العام 1969 إثر انقلاب أحمد حسن البكر وصدام حسين، وشق ثانٍ خليجي (من 1969 إلى 1993) أعطى فيهما بإخلاص جليّ، ومارس مهماته في كلا البلدين وكأنه عراقي وإماراتي في آن واحد، تأكيداً منه لإيمانه بالقومية العربية «التي تعلمتها في الجامعة الأميركية في بيروت»، فترأس الوفد الرسمي للإمارات العربية بتكليف من الشيخ زايد آل نهيان إلى الأممالمتحدة لتصبح عضواً فيها العام 1972، وتولى رفع علمها هناك، وإن لم يشأ الإفصاح عن أسباب إقناع الرئيس أنور السادات للشيخ زايد بوقف حظر النفط لتسهيل مهمة هنري كيسينجر عقد اللقاء بحضوره). أما الشق الثالث فهو في حياة المنفى وتالياً الانضمام إلى قوى المعارضة العراقية، مع رفضه الخلافات والحساسيات الشخصية بينها، من دون أن يحول ذلك دون عمله المنفرد في إجراء الاتصالات على المستوى الدولي لرفع العقوبات عن العراق والسعي لإطاحة صدام «الذي سمعت به أول مرة العام 66 عندما ذكروا في مكتبي في الخارجية في بغداد أن صدام التكريتي هرب من السجن وهو مشارك في اغتيال عبد الكريم قاسم، وأن حزب البعث الذي سمعت به أول مرة العام 46 من زملاء من السفارتين السورية واللبنانية في واشنطن، استطاع أن ينفذ إلى أقرب المقربين من عبد الرحمن عارف وأنه (أي الحزب) أجرى اتصالات مع الاستخبارات الأميركية بواسطة سفير العراق في بيروت يوسف الحاني (اغتيل لاحقاً)، واتصالات مع وزير المال في عهد (ليندون) جونسون ويدعى المستر أندرسون واستلموا السلطة» (يتهم صدام حسين بالاتصال بإسحق رابين ص 202). في نشاطات المعارضة غيّب الباجه جي الحديث عن مؤتمر هذه القوى (لم يحضره) الذي عقد في بيروت في آذار (مارس) 1991 (تسنى لكاتبة هذا المقال تغطية أعمال المؤتمر والتعرف إلى خلافات المشاركين فيه)، مستعرضاً دوره في مؤتمرات عدة، ومؤكداً مطالبته الملحّة للأميركيين بنقل السلطة إلى العراقيين مباشرة بعد الاحتلال. والغريب أنه لم يصف مشاعره يوم عاد إلى بغداد في 6 أيار (مايو) 2003 بعد 35 سنة من الغياب، مكتفياً بتمرير الكثير من حلو الكلام عن إعجابه بالفنون والموسيقى ولوحات الفن التشكيلي، والتي تمنينا لو أن إحداها زينت غلاف الكتاب. * صحافية لبنانية