شكل مؤتمر بون لتنفيذ السلام في البوسنة الذي انعقد في 9 و10 كانون الأول ديسمبر الماضي، بدء مرحلة جديدة في مسار القضية البوسنية، والى حد دعاه الكثير من المراقبين "دايتون 2" الذي تناوله القيّمون على مصير هذه البلاد في لقاءاتهم الجانبية خلال الأشهر الستة الأخيرة، ولمحوا اليه في تصريحاتهم الصحافية. لم يكن اختيار هذا الشهر لعقد مؤتمر بون مصادفة، وانما لأنه ينهي عامين على توقف الحرب، ويحمل دلالات مناسبات عدة مهمة، منها: توقيع اتفاق دايتون رسمياً في باريس، وبدء انتشار الوحدات الدولية بقيادة حلف شمال الأطلسي في البوسنة، وقرار اجتماع وزراء خارجية دول منظمة الأمن والتعاون الأوروبية في بودابست حول انشاء بعثة خاصة للمنظمة في البوسنة - الهرسك تضم حوالى 300 شخص برئاسة أميركي للاشراف على عملية التحضير للانتخابات، وانعقاد المؤتمر الدولي لبدء عملية السلام والتنمية البوسنية في لندن... الخ. وكما جرى التعامل مع الأطراف البوسنية أثناء الاعداد لأي مؤتمر يخصها، فقد سبقت مؤتمر بون مداولات ومساومات وراء الكواليس بين ممثلي الولاياتالمتحدة والمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والمسؤولين الدوليين في البوسنة، تم فيها اقرار مخططات المرحلة التالية من مساعيهم "السلمية" في البوسنة - الهرسك، كي تكون مهمة وفود 73 دولة ومنظمة مشاركة فيه وضع التواقيع على ما هو معد سلفاً في 31 صفحة فولسكاب من أجل منح شرعية التفويض لتنفيذه وفق ما يرتأيه أولو الأمر أصحاب حق "الانتداب" لترويض البوسنيين. واعتماداً على ما اتضح من هذه المخططات، انها راعت في المقام الأول مصالح الدول الخمس التي تتمتع بتسمية "مجموعة الاتصال"، اذ بالنسبة للولايات المتحدة رسخت استمرار هيمنتها على القرار الدولي، والمانيا تخلصها من عبء نحو نصف مليون لاجئ بوسني والباني في أراضيها، وفرنسا وبريطانيا ان لهما صوتاً وحضوراً في أمور البلقان، وروسيا انها يمكن ان تواصل دور الاتحاد السوفياتي مع الأخذ في الاعتبار المستجدات الدولية. ترهيب وترغيب تماشياً مع أسلوب التهديد والوعيد والترهيب والترغيب الذي اعتادت عليه حكومات مجموعة الاتصال التي تطلق على نفسها "المجتمع الدولي" في تعاملها مع الأطراف البوسنية، شد الرحال الى ساراييفو قبل أيام من موعد مؤتمر بون، كل من وزيري الخارجية الألماني كلاوس كينكل والفرنسي هوبير فيدرين، وسلّما قيادات البوشناق المسلمين والصرب والكروات مسودة التوصيات المعدة لمؤتمر بون. وقال كينكل في تصريح للصحافيين: "طلبنا منهم مجدداً تنفيذ كل ما ينبغي عمله قبل حضور المؤتمر، والا فإنهم سيواجهون مزيداً من الضغوط، لأن المجتمع الدولي قرر ان تقتصر مكافآته على من يتعاون في تنفيذ اتفاق دايتون". ووصف رئيس الوزراء البوسني حارث سيلايجيتش الحال بأنها صعبة جداً "لأن مسودة وثائق مؤتمر بون تعتبر البوسنة - الهرسك دولة اتحادية، لكنها لا تتضمن أي بند واضح يضمن حماية هذه الدولة من التقسيم والزوال، لأن الصفة التي يمنحها المؤتمر لها هي المنسق بين الكيانين اللذين تتكون منهما، ويعتبر انهما صاحبا الحق الشرعي في كل الأرض البوسنية". وبعد انتهاء المؤتمر صرح سيلايجيتش: "ما زلت أخشى على مستقبل البوسنة، وبالمشاعر ذاتها التي كانت لدي عشية مؤتمر بون، لأن وثيقته النهائية أخذت فقط بنصف اعتراضاتنا، بينما قدمت تنازلات مهمة لأولئك زعماء الصرب والكروات الذين كان من الصعب التوصل معهم حتى الى حلول وسطية". وأكد مستشار الرئاسة البوسنية ميرزا خيريتش ان موقف الرئيس علي عزت بيغوفيتش يتفق مع تصريحات سيلايجيتش، وأوضح خيريتش "ان من الغريب ان تقرر توصيات مؤتمر بون معاقبة الطرف البوشناقي المسلم جراء عراقيل الصرب والكروات التي تتعمد عدم تنفيذ متطلبات اتفاق دايتون، ما لم تكن مبوبة وفق الشكل الذي يصب في نزعاتهم الخاصة". خندق الصرب اصبح الصرب كلهم في حل مما لا يناسبهم من قرارات مؤتمر بون من الناحية الرسمية، اثر انسحابهم منه في يومه الثاني، بسبب تطرق وثيقته الى قضية كوسوفو، التي يرى منظموه، كما ورد على لسان وزير الخارجية الألماني كينكل "انها تشكل خطراً دائماً على عمليات السلام والاستقرار في المنطقة، ما يستوجب توفير حل لها يضمن وضعاً خاصاً لسكان المنطقة الألبان ويبقيها ضمن سيادة صربيا". لكن الصرب اعتبروا "ان المؤتمر مخصص لتنفيذ اتفاق دايتون، ومنطقة كوسوفو ليست داخلة في بنوده والتزاماته، اضافة الى انها مسألة يوغوسلافية خاصة، وان بحثها يشكل تدخلاً في شؤون دولة من دون رضاها". وازاء رفض المشرفين على المؤتمر لهذه الاعتراضات، غادر الوفد اليوغوسلافي الذي ترأسه مساعد وزير الخارجية دراغومير فوتشيتشيفيتش قاعة الاجتماع وتبعه وفدا صرب البوسنة بقيادة كل من الرئيسة بيليانا بلافيتش وعضو هيئة الرئاسة البوسنية مومتشيلو كرايشنيك، في لقاء لم يحدث له مثيل منذ أشهر بين هذه الأطراف المعروفة بصراعاتها، ما وصفه المراقبون بأنه "تحول الصرب جميعاً الى متشددين عندما واجهوا قضية تتعلق بنزعتهم العنصرية". وكانت بلغراد رفضت قبل نحو اسبوع من موعد المؤتمر عرض وساطة ألمانية - فرنسية في الاتجاه نفسه من مشكلة كوسوفو، علماً بأن الموقف الأوروبي هذا لا يرضي ألبان المنطقة ايضاً لأنه يشترط بقاءهم داخل مجال الصرب، لكنهم وافقوا عليه في اطاره العام باعتباره يمثل تطوراً جديداً منهم، من خلال تدويل مشكلتهم ووضع ضوابط مشددة لمنع ممارسات جمهورية صربيا الانفرادية فيها. المسار البوسني يذكر ان التوزيع العرقي في البوسنة قبل الحرب اعتماداً على النسب المئوية، كان يعطي المسلمين 50 والصرب 33 والكروات 17، وراعى اتفاق دايتون هذا الجانب ووافق على البنود الخاصة بوحدة البوسنة - الهرسك وتمثيل في مؤسسات الدولة المشتركة يتناسب مع طبيعة الوجود السكاني. إلا أن مؤتمر بون جرد المسلمين من أي ميزة توفر لهم التمتع بصفة العرق الغالب، وجعلهم في مستوى واحد مع الصرب والكروات، وطرفاً ضمن ثلاثة فرقاء متساوية الحقوق والواجبات. ويبدو هذا التساوي أمراً اعتيادياً وايجابياً يتطلب الثناء عند الأخذ بالمقاييس الأوروبية واعتبار البوسنة دولة علمانية، لكن الناتج ليس كذلك إذا تمت مطابقة هذه المبادئ مع الواقع البوسني، وذلك لعدم توافر روح المواطنة عند كل الأطراف، اذ بينما يسعى المسلمون الى بوسنة موحدة ولو في الحدود الدنيا التي تشبثوا بها في محادثات دايتون، واصل الصرب والكروات ترسيخ نزعاتهم الانفصالية التي جعلتهم يسمحون بتطبيق ما يلائمها من بنود اتفاق دايتون وعرقلوا سواها. ومع ان مؤتمر بون عقد أصلاً لإكمال تنفيذ اتفاق دايتون، لكن العبرة، كما تجلت، لم تكن بما رُوج، وانما بالتفسير العام الذي قُدم لمواده وتفاصيله القومية وتنظيمات الكيانين البوسنيين، ما انصب في تأويل ان الحل يكمن في قاعدة ان في البوسنة ثلاثة شعوب اعراق وهي عملياً ثلاثة أجزاء، وأعطى مؤتمر بون تفويضاً للمنسق المدني لعملية السلام كارلوس ويستندورب والمسؤولين الدوليين، المدنيين والعسكريين، لفرض أي أمر يشاءون، وما على الذين يشملهم "الانتداب" إلا الطاعة والتنفيذ من دون نقاش. ووجد المسلمون ان الخطر لا يتأتى من ارغام الرافض على الرضوخ، وانما تركز اعتراضهم على صيغة المخطط الجديد لمسار عملية السلام، الذي مهما تنوعت التسميات "الجذابة" التي تطلق عليه، فإنه في الحقيقة "اتفاق دايتون 2". اللافت ان المهمة الدولية الرئيسية في البوسنة انتقلت الى التركيز على "مقاومة الهيمنة" وبرز ذلك في مؤتمر بون، واتضح خلال زيارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون لساراييفو 22/12/1997، اذ ذكر له العضوان في هيئة الرئاسة الصربي مومتشيلو كرايشنيك والكرواتي كريشمير زوباك، في لقائه معهما كل على انفراد، ان "رغبة الصرب والكروات بالانفصال هي رد فعل ناجم عن نزعة المسلمين بالهيمنة عليهم". ويبدو ان كلينتون تفهم ذلك، كما صرح كرايشنيك لاحقاً، اذ ان الرئيس الأميركي أصغى الى ايضاحاته بإمعان وأتاح له ان يطرح موقفه بجوانبه كافة. ولعل هذا التفهم هو الذي جعل كلينتون يؤكد أثناء خطاباته وارشاداته في ساراييفو "نرفض هيمنة المسلمين البوشناق في البوسنة". وفسر المراقبون ذرائع "الهيمنة" في البوسنة بأنها مرادفة لمطالب "الأمن" الاسرائيلية.