حدثان بارزان شهدتهما الساحة التركية مؤخراً، سيكون لهما تأثير هائل على الصورة التي حاولت أنقرة تسويقها عن مكانتها ودورها في المنطقة. فمع الإعلان عن قبولها نشر أجزاء من الدرع الصاروخية على أراضيها، تكون تركيا قد أسقطت بالضربة القاضية ثلاثة من المبادئ الستة التي وضعها مهندس سياستها الخارجية أحمد داوود أوغلو، ومع تسرب مضمون تقرير "بالمر" إلى الإعلام، تكون أنقرة قد تلقت ضربة قاسية من الراعي الأمريكي في صراعها المعلن مع "إسرائيل" حول مكانة الحليف "الأولى بالرعاية"، وبهذا فإن صورة "الدولة الحائرة" التي حاولت أنقرة جاهدة الخروج منها خلال السنين الماضية، عادت لتطل برأسها من جديد. والحال أنه منذ بروز حزب "العدالة والتنمية" على المسرح السياسي، وإعلان أوروبا رفضها التام "لأوروبة تركيا"، وهذا البلد حائر بين أحلام عثمانية، وأهدف الدولة الاقليمية الكبرى، وبالطبع دون اختفاء وهم الدولة الأوروبية بالكامل، الأمر الذي أسس لما يسمى "بالدولة الحائرة"، فهي ليست غربية بالكامل، وليست شرقية بالكامل أيضاً، وهي دولة إقليمية كبيرة بلا مراء، ولكنها ليست الوحيدة، وهو ما حاول داوود أوغلو عبر مبادئه الستة أن يجد لها حلاً توفيقياً ما، ولكن تصادم هذه التطلعات ببعضها من جهة، وبحقائق الواقع الصلب من جهة أخرى، جعل نظريته تقف على ثلاث أرجل بدلاً من ست. والأمر فإن القبول بنشر الدرع الصاروخية لم يسقط المبدأ الثاني لأوغلو فقط والمعروف "بسياسة تصفير المشكلات" مع المحيط الإقليمي، بل أسقط أيضاً المبدأ الرابع والقائل "بالسياسة الخارجية المتعددة البعد"، لأن هذا الدرع موجه كما هو معلن ضد جيران تركيا الإقليميين، كما أسقط المبدأ الخامس القائل "بالديبلوماسية المتناغمة"، لتعود تركيا إلى دورها التقليدي، "دولة جناح" لمصالح المعسكر الغربي في المنطقة. وجاء تقرير "بالمر" وردة فعل تركيا عليه، مؤشراً آخر على عمق "الحيرة التركية"، فمن جهة منح التقرير إسرائيل نقطة جديدة في الصراع على مرتبة الحليف المدلل للغرب، كما أنه لم يسمح لأردوغان بحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام التركي على الأقل، ومن جهة أخرى أثار رد الفعل التركي في بعض جوانبه أسئلة عدة، منها: هل كانت أنقرة ستستمر بالاعتراف "بقانونية" الحصار على غزة لو اعتذرت إسرائيل عن الدماء التركية فقط؟، ومنها: ما سر التزامن بين العقوبات على إسرائيل والقبول بنشر الدرع الصاروخي؟. والحال أنه مهما كان الأمر، فليس لأحد أن ينكر أن القبول بالدرع الصاروخي، حوّل "سياسة تصفير المشاكل"، إلى "سياسة تصفير الثقة" كما سماها أحد المحللين، وتقرير "بالمر" كان درساً غربياً قاسياً حول حقيقة حجم وموقع تركيا لديه، ليعود السؤال القديم يتردد من جديد: تركيا إلى أين؟، والحق أنه ليس سؤالاً عابراً لدولة حائرة ترفض الشرق وتتعالى عليه، ويرفضها الغرب ويتعالى عليها، إنه مأساتها ومعضلتها معاً، والمشكلة الكبرى أن تكون الاستجابة التركية لهذه المعضلة، انخراطاً عسكرياً أوسع مدى في مغامرات الناتو المقبلة في المنطقة، خاصة أن التقارير المعلنة والمستترة تقول الكثير حول هذا الشأن، ولكن هل تجد تركيا ذاتها في هذا الدور؟، وهل يحل ذلك جزءاً من ألغاز حيرتها؟، لننتظر ونرى..!!.