يكشف خيري شلبي في أحدث كتاب صدر له قبيل رحيله بعنوان «أنس الحبايب»، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة) سر الخلطة المدهشة في صناعته لفن الكتابة الروائية، مؤكداً أنها تستند أساساً إلى الخيال، وليس التوق إلى الانتقال من القرية إلى المدينة، كما هي الحال بالنسبة إلى كاتب آخر ذي أصول ريفية هو يوسف إدريس الذي عبر عن ذلك التوق في قصته الشهيرة «النداهة»، والتي تجسد خرافة قروية في شأن قوى غيبية تحدد مصائر البشر. يقول خيري شلبي: «طلعت عليّ النداهة من كتاب ألف ليلة وليلة، تماماً مثل العفريت الذي هب من القمقم كعاصفة من الدخان»، وهو ما تبدو معه النداهة الأخرى (القاهرة) هامشية وغير مهمة أمام جرأة عوالم الأحلام القروية. يقول: «تهف عليّ الأيام الحلوة كما يهف على أنفي طبيخ أمي التي كانت كفيلة وحدها بأن تشبعني على البُعد منذ أن ندهتني النداهة وأخذتني المدينة من أمي وإخوتي». ويؤطر الحكاء العبقري هذا الحنين لعوالم القرية على طول صفحات سيرته الذاتية ليأتنس بالأحباب، رغم غلظتهم وقسوتهم وتشددهم، فهم على ما يبدو منحوه قدراً هائلاً من التسامح وسمحوا له بالتخييل واكتشاف هذا الكنز من المعرفة. وتتعدد السلطات الرسمية على مستوى النص، بما يسمح للمتفاعل معه بعد ذلك بتقبل شعبوية صناعة المعرفة لديه، وقدرتها على التخييل والتسامح، فها هي الحكومة تقرر للكاتب وأقرانه من التلاميذ الحصول على أحذية مقابل بضعة قروش، فيقول عن الوعي الجمعي: «رحب الأهالي بفكرة المشروع، لكن عدم ثقتهم الأزلية في الحكومة جعلتهم «يزمزقون» - يعترضون في صمت). باعت بعض النساء تحويشاتهن من بيض الدجاج وباعت أمي بطة كانت مرشحة للذبح في موسم عاشوراء. ورغم حزني الشخصي على البطة فإنني صرت مزهواً بأني دفعت القرش قبل كثيرين». ويرصد خيري شلبي شخوصه بفاعلية وقدرة غير عادية على اكتشاف مكامنهم، فها هو «محمود المهدي»، العامل في المدرسة يقوم بالأعباء كافة، «فارع الطول، مبروم الجسد في امتلاء إلى حد ما، نظيف الثياب باستمرار»، في مقابل الناظر حسن الزيات؛ «المتشدد، الجاد، المرعب تقريباً». وهناك أيضاً، من زمن طفولة الكاتب، الشيخ محمد زيدان عسر. ويطرح النص عبر الشيخ زيدان ثقافات متعددة في زمن واحد اكتسبها المصريون على مدى العصور، ليصنعوا في النهاية دينهم الشعبي وثقافتهم الشعبية، فيظل المثقف أو العالم الأزهري له الحضور القوي عن الإعلام الرسمي. على مستوى التخييل، كان «الولد المخرّف» هو مشروع الكاتب، يقول النص:»لقد سرني منذ الطفولة أنه كان ينصت إليّ باهتمام شديد رغم اتهام أمي لي بأنني ولد مخرّف، ذلك أنني وعمري أربع سنوات كنت أحكي لجارنا عبد الرشيد جعفر؛ صانع الحصائر أشياء غير معقولة»، وكان عبد الرشيد بالطبع هو آلة الفضح بالنسبة للبطل/ الكاتب، يقول عنه النص: «فعندما يحضر في المساء جلسة المندرة يحكي تلك الحكايات فأراني صرت مضحكة». ويسلط النص الضوء على مكونات محددة للخلطة المدهشة التي صنعت من الكاتب كاتباً، فمن التراث الشعبي، وخيال ألف ليلة وليلة الخصب، وحتى رحلات صادق؛ ابن عم الكاتب، الذي كان يجلب معه أسطوانات الأغاني، وصولاً إلى وجدان واجه السلطات الرسمية لسنوات طويلة بثقافة شعبية متسامحة ومحلقة إلى أبعد مدى من الخيال.