يرسم الروائي المصري سعد القرش في عمله الجديد " ليل اوزير " عالما متخيلا شديد الواقعية تبدو نوافذه المطلة اشبه بمرايا متعاكسة صاغها المؤلف بمهارة غير بريئة اي انها هنا واعية مدركة . عبر هذه المرايا او هاتين المرآتين خلق سعد القرش ما يبدو لنا - حينا - تؤأمين هما الماضي والحاضر ..وحينا اخر حالة واحدة تطل بوجهين شبه متطابقين فلا يدري القارىء ايهما الاصل وأي منهما هو " الانعكاس " او الشبه . انه التباس مدروس بمهارة فنية لان المشاعر والافكار والتصرفات - حسنة وسيئة - تكاد تكون واحدة .وهنا يكمن كثير من سمات المآسي العربية حيث يتوقف الزمن عامة الا عند نخبة من الناس تستبق حاضرها لكنها تدفع باهظا ثمن تجاوزه سيرا مع حركة الحياة اذ تبتلعها - او تكاد احيانا - رمال الزمن السييء المتحركة . وعند سعد قدرة سردية جذابة وأسلوب يعيد من خلاله خلق اجواء غابرة من التاريخ فيعيش القارىء ظلماتها وألوانها وآمالها وأوهامها وتفاصيل بيئتها جغرافيا واجتماعيا .الا انه يكتب بمرارة وتشاؤم عميقي الجذور يبدوان عنده حتميين لكل من واجه " واقعنا " بعمق . ويطرح سعد القرش الروائي والصحافي المصري الشاب مسألة ازلية تتلخص في ما سمي عزلة الحاكم او حجبه او احتجابه لاسباب متعددة .والحاكم هنا وبفعل عمل بطولي انقذه فيه من الموت شخص ادنى منه منزلة يتحول الى اسير فعلي .قد تبدأ الامور بنوايا طيبة احيانا لكن السلطة جذابة تصعب مقاومتها .هذه السلطة التي يمكن ان تنقذ الناس قادرة على ان تعيث في الارض فسادا .انها هنا افسدت البطل الطامح كما تحول صاحب السلطة السابق الطيب الى اسير ..اسير فعلي في قبضة القوة الصاعدة وأسير لشهواته ونزواته . الرواية التي جاءت في 253 صفحة متوسطة القطع والتي هي سادس كتب سعد القرش بين رواية وقصة وبحث صدرت عن " الدار المصرية اللبنانية " في القاهرة . تتناول الرواية وفقا لرويترز فترة زمنية تراوح بين وجود " الفرنسيس " في مصر وايام محمد علي باشا .على دفة الكتاب اختصار لهيكل الرواية وقد جاء فيه " اعاد الحاج عمران بناء قرية " اوزير " التي محاها الفيضان .وظلت القرية في حياته نموذجا للتسامح والتعايش ثم آلت الامور الى حفيده " عامر " لكنه انشغل بالملذات .بعد ان حاول أغراب اغتياله - وهي مصادفة كانت بداية صعود شاب بلا وزن - تصدى بإخلاص للقتلة المجهولين وجد الشاب " منصور " القرية ثمرة ناضجة تسقط في حجره .وبإيقاع سريع كانت الخيوط تنتهي عنده والطرق كلها تؤدي اليه ثم الى ابنه " خليفة " على مدى اربعين عاما هي فترة الصراع بين قوة عمياء ووعي يحاول الناس امتلاكه ليخرجهم من حالة الصمت والرعب ويساعدهم على استرداد القرية .لكن ليل اوزير الطويل لا ينتهي بالفجر وإنما بكارثة ." مما يميز عمل سعد القرش هذا عن اعمال تاريخية اخرى - وهنا نأخذ مثلا رواية صنع الله ابراهيم " القبعة والعمامة " التي استندت الى مرويات عبد الرحمن الجبرتي عن فترة وجود جيش نابوليون بونابرت في مصر - ان ابراهيم في ما نسجه من مواد روائية " اسقط " مفاهيم ومصطلحات حديثة ..على اشخاص تلك الحقبة فجعل شخصياته المصرية تنطق بها وتتصرف بموجبها في حين ان كل ذلك لم يكن قد تخمر او حتى فهم فهما كافيا بعد ..اي انه جعل الماضي ينطق بلغة الحاضر .اما القرش فقد نقل - وبلغة الماضي ومعتقداته وحتى خرافاته - القارىء الى الماضي وجعل هذا القارىء كأنه يقول عاكسا القول المألوف " ما اشبه يومنا بالبارحة ." وبعد ان كان الناس مسلمين ومسيحيين ومصريين وأجانب يعيشون في اوزير بتسامح وسلام ادت المصالح السياسية والتعصب الديني - متضافرين حينا ويستغل احدهما اي السياسي هنا الطرف الاخر لمصلحته احيانا - الى كابوس يسبق طوفان النار .. ولا نوح ولا سفينة هنا .انه يتكلم عن فترة غابرة لكن القارىء يفهم الامر بشكل مختلف اي يجد في العمل ايامه الحاضرة .ولاشك في ان هذا ما اراده الكاتب ونسجه بمهارة . يعرض الكاتب كثيرا من الظلم التاريخي والاذلال اللذين لحقا بالناس عامة وبأقليات وطوائف ومذاهب من نصارى ومسلمين وغيرهم في قرون وسنوات ماضية .يقول واصفا كيف استطاع " الدكتاتور " الجديد منصور القهوجي ان يختصر في شخصه كثيرا من عهود البطش والظلام وخداع الناس وتجييشهم وزرع الفتنة " غاب عامر عن الحاضرين ..اسر في نفسه السؤال ..هل استبدلت اوزير بالوجوه القبيحة لاولئك الرجال ..وجها واحدا هو منصور القهوجي؟ ولماذا لم يتذكر امام الجامع قبل الان ان في اوزير اغرابا يجب تجريدهم من السلاح؟ " ويشرح بوضوح كيف يساء فهم النص الديني عن تعمد وخبث ويختصر بعض ما يلجأ اليه الحاكم في سعيه الى الحفاظ على سيطرته على الناس في ما اصبح من كلاسيكيات هذا المجال اي تخويفهم من عدو فيقول بلسان توفيق احد رجال منصور المتحكم بالقرية " ود ان يعترف بأن الفرنسيس الذين يجيّش منصور اوزير لحربهم غير موجودين الا في خيال الناس ...لكنه آثر ان يتجنب موتا معلقا بكلمة ..." وصار المعارضون او المتذمرون يختفون لاسباب مصطنعة عديدة .نقرأ مثلا " ...جاء نداء المؤذن يعلن موت مرجان والصلاة عليه في الجامع بعد الظهر .قيل انه انجذب الى النداهة ...فأغرقته في الترعة ...ثم خطب امام الجامع في الناس لاعنا الفرنسيين الذين قتلوا مرجانا كما طلب الاقتصاص من الغجر الذين يمدونهم بالشقارف .." وكما في هجرات هذا العصر هربا من الموت وسعيا الى الحرية او لقمة الخبز ..تتحول القرية الى ارض موات ويضطر الجيل الجديد المتمثل بابن عامر الحاكم الطيب الذي تلهى بملذاته الى النزوح عن عالم الموت والاستبداد هذا هربا من طوفان النار الاتي .يقول عامر لادريس ابنه " لا تتمهل فالطوفان آت ." ويشعر ادريس بالذنب فيسأل بمرارة " اهرب؟ " فيرد الاب " ارحل ..المدن غير مؤمنة لكنها اقل نفاقا .يكفي ان معك مالا وأهلا وامراة مؤمنة بك ." ويبقى الاب وزوجته في انتظار الجحيم الاتي ." تقعد زهرة وتنظر الى عامر .ترى رأسه يشق السحاب .يسأله ..اكان لا بد ان تتطهر اوزير بحريق يأتي على الناس والديار؟ " تنهض زهرة بتثاقل تتعلق بيد عامر وهو يشير بيده الاخرى الى السماء وطرف اللهب يقترب ."