المكان. الهويّة. الجذور. التاريخ. الحكايات المختبئة هنا وهناك في ثنايا الأزقة وفي حيطان الحارات وخلف أبواب المنازل. للشبابيك حكايات وللأسطح أيضاً. والمكان يحمل من عبق التاريخ ما لذّ وطاب من ذكريات جميلة، ولحظات ليس من السهل أن تُمحى من ذاكرة الإنسان مهما تغيّرت الظروف أو تبدّلت الأحوال المادية والاجتماعية. في تونس مثلاً يبقى للمدينة العتيقة ألقها وأجواؤها التي تغري بمحبتها. فأبناء تلك الأزقة وإن غادروها، يستمر حنينهم إليها وبشدة أحياناً، فتجدهم لا يفرطون بمنازلهم أو دكاكينهم ويبقون عليها، ليتنسمّوا منها عبق الماضي وذكرياته الحميمة. وثمّة من يرى أن المكان، لم يعد يعني أيّ شيء نظراً إلى تعدده، وأن البعض يعيش في سفر دائم من أرض إلى أرض. والبعض يغادر مكانه في اليوم الواحد مرات عديدة، فيما يرى البعض الآخر أنّ المكان الفيزيائي فقد معناه وصفته وأصبح المكان الافتراضيّ ملجأ الغالبية العظمى من البشر من خلال ما وفرته التكنولوجيات الحديثة من أماكن تتعدد في مكان واحد، فالإنسان الحديث يعيش تعدد المكان وهو جالس أمام شاشة الكومبيوتر لا يبرح مكانه. أحد الفارين من ليبيا إلى تونس، اصطحب والدته هرباً من ويلات الدمار في بلاده، يقول إنه لم يعد يثق بالمكان كفضاء يمكن أن يكون أبديّاً. ويتابع: «عشت في الغربة عشر سنوات أو أكثر بسبب الدراسة، ثمّ التسكع في شوارع لندن ومنها إلى فيينا فباريس وروما، ولكننّي لم أشعر يوماً أنني أنتمي لأي مكان بما في ذلك قريتي التي ولدت فيها ونشأت، قبل أن تستقر العائلة على تخوم طرابلس ومنها إلى المنفى الإجباري في تونس جرّاء ما يحدث هناك». ويُعرّف المكان فيزيائياً ككلمة موازية لكلمة «فضاء»، لتعبّر في النهاية عن مجمل المكان الذي تشغله المادة، وبالتالي فإنّ المكان هو الفضاء المحيط بنا بأكمله والمملوء بالمادة وفق تصور نيوتن. ويقول منير المنستيري، الذي يعمل في قطاع الثقافة، «إنّ علاقة الإنسان بالمكان تحتكم لعوامل كثيرة». ويضيف: «تغيرت علاقة الإنسان بالمكان مع تطور المجتمعات وتطور السلوكيات والعقليات داخلها، بحيث أصبح ارتباط الإنسان بالمكان رهن وضعيته المادية والاجتماعية. وبات من اللافت أن هذه الوضعية هي التي تحدد المكان اللازم واللائق فمن غير المعقول أن يعيش من يملك المال والجاه في نفس المكان البائس أو المتواضع مع الفقراء أو البسطاء». ويوضح: «الوضع الاجتماعي والمكانة المرموقة لا يسمحان بالاختلاط بين عامة الناس وعلية القوم، وهي مقاييس ومفاهيم مغلوطة على اعتبار أنّ اللباس لا يصنع الشخصية، ثمّ إن علاقة الإنسان بالمكان أصبحت من الأولويات عند بعضهم، فيها خروج ونكران للأصل وهي مفاهيم لا تتماشى مع عراقة مجتمعنا العربي المترابط». تغيّرت الأحوال وأصبح المكان أمكنة، ولم يعد له ذلك المعنى المفتوح على الحميميّة والعلاقات الإنسانية العميقة والصادقة، وأصبح مجرد ذكرى لأيّام خوال كان فيها الجار أكثر من قريب وكانت الحياة بسيطة وجميلة وفيها من المحبة الكثير. وهذا ما تؤكده أستاذة اللغة الفرنسية، لمياء التونسي، حين تتحدث عن علاقتها بالمكان فتقول: «عندما كنت صغيرة وحتى سنّ العاشرة من عمري كنت أعيش في الحومة العربي (الحارة العربي)، كانت الحومة مكاناً صاخباً يضجّ بالحياة». وتضيف: «كان وسط البيت مكاناً للهو والمرح لي ولإخوتي، يتّسع للعائلة كلّها حيث نعيش مع جدي وجدتي». الكلام عن المكان وحميميته، يغدق الذكريات على لمياء التي تتذكر فصل الصيف وموسم «العولة» والأعراس وحفلات الختان:» كانت كل الجارات يتجمعن في سقيفة منزلنا لإعداد كسكسي «العولة»، وهو الحدث الذي يعتبر على بساطته مناسبة للفرح والغبطة للكبار والصغار على حد السواء، حيث تصدح الزغاريد وتنتشر رائحة البخور المنبعثة». وتواصل لمياء: «أذكر جيداً أن الجيران كانوا بمثابة الأقرباء، ويتجاوز التواصل بيننا مجرد تحية نتبادلها في الصباح أو في المساء. ومنذ انتقلنا من دارنا الواسعة وقلب زقاقنا النابض بالحياة، إلى شقة صغيرة ضيقة في عمارة في حي جديد، تركنا وراءنا حلو العيش ورغده، هنا كل جار معتكف في بيته لا يبرحه إلاّ للعمل أو لقضاء حاجته. وجاء الكومبيوتر ليعمّق الهوة التي كنت بدأت أحس بها بين بني عصري والإنترنت الذي أصبح ملاذنا للتواصل، وإن كان تواصلاً ظاهريّاً وافتراضيّاً». وعند فقدان الحميمية مع المكان، يبدو الأخير أماكن متعددة، ويفقد معناه عند بعضهم، ويتجذر في ذاكرة آخرين مثل نقش أثري نفيس.